بعد ما يقرب من عام من بدء هجمات "حزب الله" على إسرائيل دعماً لـ"حماس"، وصل الصراع الذي كان متوسط الشدة إلى نقطة تحول حاسمة. في البداية، سعى "حزب الله" إلى تقييد نطاق القتال، مفضلا حرب استنزاف مع معايير محددة. بيد أن إسرائيل، التي تواجه نزوح نحو 70 ألفا من مواطنيها من الشمال، لم تعد تتفق مع "الحزب" في هذا النهج.
وعلى مدى الأشهر الستة الماضية، أظهرت إسرائيل استعدادا واضحا للتصعيد وزيادة التكلفة على "حزب الله". واليوم، بات الصراع- الذي أصبح بالفعل أكثر عنفا من حرب 2006 في عدة جوانب- مرشحا لدرجة أعلى من التصعيد. ولسوف يكون للقرارات التي ستتخذها إسرائيل و"حزب الله" في الأيام والأسابيع المقبلة تأثير كبير على لبنان وإسرائيل والمنطقة بأسرها.
وفي الآونة الأخيرة، تجاوزت إسرائيل بالفعل الكثير من الخطوط الحمراء المفترضة لـ"حزب الله" في لبنان. في البداية، كانت ضرباتها تقتصر على الجنوب، ولكن الآن تستهدف إسرائيل مواقع "حزب الله" في جميع أنحاء البلاد، بما في ذلك سهل البقاع والمناطق الواقعة شمال بيروت. وأصبحت الضربات على قادة "حزب الله" الكبار في ضاحية بيروت الجنوبية- التي كانت تعتبر في السابق محظورة- أمرا مألوفا. بل ذهبت إسرائيل، الأسبوع الماضي، إلى أبعد من ذلك، حين فجرت أجهزة "البيجر" وأجهزة لاسلكية تابعة لعناصر "حزب الله"، ما أسفر عن مقتل وإصابة الآلاف. وفي الأيام القليلة الماضية، رفعت إسرائيل مستوى الصراع إلى مرحلة جديدة من خلال استهداف ترسانة الصواريخ الخاصة بـ"حزب الله"، بما في ذلك الصواريخ الدقيقة وبعيدة المدى والصواريخ الباليستية الاستراتيجية، متجاوزة ربما آخر خطوط "حزب الله" المفترضة.
إن الهدف المعلن لإسرائيل من التصعيد هو السماح لمواطنيها بالعودة الآمنة إلى منازلهم. وهناك اقتراح أميركي مطروح على الطاولة، قدمه مبعوث البيت الأبيض آموس هوكشتاين، من شأنه أن يخفف من حدة الصراع ويؤمن شمال إسرائيل. ومن شأنه أيضا أن يمنح "حزب الله" نوعا من الفوز، ألا وهو ترسيم النقاط الحدودية المتنازع عليها لصالح لبنان (أي "تحرير" الأراضي) وإنهاء تحليق الطيران الإسرائيلي فوق لبنان. ولكن للأسف، لم يكن "حزب الله" راغبا في الدخول في أية مفاوضات بهدف التسوية. وبدلا من ذلك، ربط "الحزب" أي خفض للتصعيد بالتوقيع على وقف رسمي لإطلاق النار بين إسرائيل و"حماس" في غزة، وهو احتمال بعيد للأسف.
وقد صرح زعيم "حزب الله" حسن نصر الله بأن عملية التفجير الإسرائيلية لأجهزة الاستدعاء تشكل "إعلان حرب". لكن في الحقيقة، نصر الله هو الذي أعلن الحرب على إسرائيل في الثامن من أكتوبر/تشرين الأول 2023 عندما بدأ بقصف الدولة اليهودية. وكان بإمكان نصر الله أن يختار إنهاء الحرب في أي وقت، إما عن طريق وقف هجمات "الحزب" على إسرائيل من جانب واحد، وإما من خلال تبني وساطة هوكشتاين. لكن من خلال ربط حملته ضد إسرائيل بغزة، يبدو أن نصر الله حشر نفسه ومعه "حزب الله" في الزاوية.
وفي الوقت نفسه، بعد أن تمكنت إسرائيل من استيعاب هجوم "حزب الله" طيلة الجزء الأكبر من هذا العام، فهي تعمل الآن على تصعيد الموقف. حيث أدت سلسلة من ضرباتها الموجهة إلى تدمير الصف الأول من قادة "حزب الله"، ومن بينهم الكثير من كبار ضباط القوات الخاصة في وحدة "الرضوان" التابعة لـ"الحزب". وبعد أن تعطلت الاتصالات والقيادة والسيطرة لدى "حزب الله"، تستهدف إسرائيل الآن مخزون الميليشيا الهائل من الصواريخ والقذائف.
وقد تسببت العمليات الإسرائيلية ضد عناصر "حزب الله" وأصوله في وقوع خسائر فادحة. إذ لم تكتفِ هذه العمليات بإضعاف قدرات التنظيم، بل أدت أيضا إلى تآكل ثقة أنصار "حزب الله". ويشير النزوح الجماعي من جنوب لبنان في 23 سبتمبر/أيلول الحالي إلى أن سكان الجنوب يدركون جيدا أن "حزب الله" عاجز عن حمايتهم. والأسوأ من ذلك أنه أصبح جليا أن "حزب الله" يعرّض مؤيديه السابقين للخطر عن عمد من خلال نشر صواريخه بين المناطق السكنية.
إن الخسائر في صفوف المدنيين اللبنانيين، سواء نتيجة الضربات الجوية الإسرائيلية أو بسبب الانفجارات الثانوية للصواريخ المخزنة في المنازل، تشكل مأساة حقيقية. ومن المؤسف أنه في ظل التزام "حزب الله" بالاستمرار في هجماته على إسرائيل، فمن المرجح أن يزداد الوضع سوءا بالنسبة للبنانيين والإسرائيليين على حد سواء.
ومع غياب التفاهم حول خفض التصعيد، فإن إسرائيل ستواصل بلا شك حملتها الجوية التي تستهدف صواريخ وأفراد "حزب الله". كما أن الجولة الأحدث من الضربات الجوية، التي بدأت في الجنوب وامتدت عبر البقاع، ستغطي في نهاية الأمر مناطق جغرافية أوسع في لبنان. وفي إطار جهودها التي تهدف إلى إضعاف القدرات الكبيرة التي اكتسبها "حزب الله" منذ عام 2006- والتي ورد أنها تجاوزت 150 ألف قذيفة- سوف تسعى إسرائيل بشكل متزايد إلى البحث عن صواريخ الميليشيا الاستراتيجية ذات الحمولة الثقيلة وذات المدى الطويل والموجهة بدقة وتقوم بتدميرها.
وفي مواجهة هيمنة استخباراتية إسرائيلية لا جدال فيها وفقدان جزء لا يستهان به من صواريخه وقذائفه، ورد أن "حزب الله" طلب من إيران في الأيام الأخيرة مهاجمة إسرائيل. لكن طهران امتنعت حتى الآن عن إنقاذ وكيلها، تاركة "حزب الله" يدافع عن نفسه. وبعد انتهاء اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، يمكن لإيران أن تغير رأيها وتنضم إلى المعركة. وحتى ذلك الحين، ينبغي على نصر الله أن يتخذ بعض القرارات.
ويستهدف "حزب الله" الآن مدينة حيفا وقد أطلق صاروخا باليستياً باتجاه تل أبيب، وهو تصعيد كبير وإن كان بشكل أساسي رمزيا من جانب الحزب، إذ أصبح أكثر من مليون إسرائيلي الآن تحت نيران "حزب الله". لكن حجم الأضرار والخسائر في الأرواح الإسرائيلية كان ضئيلا حتى الآن، ويرجع هذا جزئيا إلى أن الدفاع الصاروخي الإسرائيلي متعدد الطبقات لا يزال فعالا. وفي حال استمرت إسرائيل في استهداف أنظمة صواريخ "حزب الله" بوتيرة سريعة تقريبا- بشرط أن يكون لديها المعلومات الاستخباراتية والأسلحة الكافية- بمعدل يتراوح بين 1500 و2000 هدف يوميا، فقد يضطر نصر الله إلى الاختيار بين استخدام هذه الأسلحة أو خسارتها.
في الواقع، ونظرا للنجاحات العملياتية التي حققتها إسرائيل، ومع عرقلة قيادة وسيطرة "حزب الله" على المنطقة، تنامى لدى إسرائيل الإغراء بخوض مناورة برية في جنوب لبنان. إلا أنها قاومت هذا الإغراء حتى الآن بسبب إدراكها لتفوقها الجوي والاستخباراتي الجاري. لكن ورغم كل شيء فإن قوات الدفاع الإسرائيلية تستدعي حاليا قوات الاحتياط إلى الشمال.
وعلى الرغم من الاستعدادات الواضحة لمعركة برية، فإن الغزو البري لن يكون قرارا حكيما. فقد خاضت إسرائيل في لبنان عددا من العمليات البرية، ولم يكن أي منها ناجحا. وفي كافة الأحوال، يأمل "حزب الله" في الحصول على فرصة لاستهداف القوات الإسرائيلية في جنوب لبنان، وهي ديناميكية يمكن أن تسمح للميليشيا بامتلاك زمام المبادرة ونقل ساحة المعركة إلى الأرض في حملة كانت تهيمن عليها إسرائيل حتى الآن.
ومع اقتراب إسرائيل و"حزب الله" من "حرب شاملة"، يصعب التنبؤ بما ستتمخض عنه الأسابيع المقبلة. الأمر الأكيد أنه في حين لدى كل من إسرائيل و"حزب الله" القدرة على التصرف، فإن "حزب الله" هو من سيقرر مسار الأحداث في النهاية. وتبدو واشنطن حريصة على خفض التصعيد، وتبذل إدارة بايدن جهودا كبيرة "لفصل" الصراع عن غزة كي تمنح إسرائيل و"حزب الله" مسارا دبلوماسيا لتجنب حرب واسعة النطاق. ومع ذلك، تبدو فرص النجاح على الجبهة الدبلوماسية ضئيلة. وسواء بقوة السلاح أو بالدبلوماسية- أو عن طريق مزيج من الاثنين- لن تعود إسرائيل إلى الوضع الذي كان قائما قبل السابع من أكتوبر على حدودها الشمالية. والكرة في ملعب "حزب الله".