في موقف جديد أعتبره خبراء اقتصاديون محاولة من واشنطن لتدارك التداعيات العكسية الخطيرة لسياسة فرض العقوبات الواسعة على روسيا، على الاقتصادات الغربية ذاتها وفي مقدمها الاقتصاد الأميركي، والتي كانت هي سباقة في تغليظها وحث الأوروبيين على تشديدها مع اندلاع الحرب في أوكرانيا.
حيث اعتبرت وزيرة الخزانة الأميركية، جانيت يلين، أن حظر الاتحاد الأوروبي النفط الروسي، سيكون له تأثيرات مدمرة على أوروبا والعالم بأسره، داعية إلى الحذر عند التفكير في حظر أوروبي كامل على استيراد النفط الروسي.
واعتبرت الوزيرة الأميركية أن من شأن ذلك الحظر الأوروبي لو تم، أن يرفع أسعار النفط العالمية، وبعكس المتوقع، قد يكون له تأثير سلبي ضئيل للغاية على روسيا لأنها على الرغم من تصديرها كميات أقل، إلا أن الأسعار التي ستحصل عليها مقابل صادراتها قد ترتفع.
فما الذي تغير واستجد؟
وتعليقا على هذا التحذير الأميركي، وما إذا كان مؤشرا لفشل سياسة العقوبات الغربية على موسكو، يقول عامر الشوبكي، الخبير الاقتصادي والمختص في شؤون الطاقة، في حوار مع سكاي نيوز عربية: "هذا يعتبر تحولا نوعا ما في الموقف الأميركي، حين تعلن وزيرة الخزانة الأميركية أن لا بد من الحذر من فرض عقوبات أوروبية كاملة على الطاقة الروسية، بفعل تأثيراته الكارثية على الاقتصادات الأوروبية والعالمية ككل".
وأضاف "وهنا فإن المعضلة الأبرز الناجعة عن العقوبات التي فرضها الغرب على روسيا، هي ضغوط نسب التضخم القياسية، حيث بلغت في الولايات المتحدة نسبا قياسية لم تسجل منذ نحو 45 عاما، وكذلك في أوروبا، علاوة على انخفاض المستوى المعيشي في بريطانيا ودول الاتحاد الأوروبي وغير ذلك من ملامح الركود والتراجع الاقتصاديين في البلدان الغربية، وهذا كله بات يؤرق واضعي السياسات المالية فيها ومنهم الوزيرة الأميركية".
ويضيف الشوبكي: "هناك طبعا توجه أوروبي جدي لتخفيف الاعتماد على كافة أنواع الطاقة الروسية، سواء النفط والغاز أو الفحم أو حتى الوقود النووي، وبالنسبة للفحم مثلا وضع الاتحاد الأوروبي جدولا زمنيا مدته 4 أشهر، لكن اعتماد بلدانه أصلا هامشي على الفحم لتوليد الطاقة، وبالتالي فلا تأثير يذكر على الاقتصادات الأوروبية جراء ذلك، كما وأن هذا لن يؤثر على الاقتصاد الروسي كذلك، حيث يورد الفحم فقط 4 مليارات دولار للخزينة الروسية".
التأثير الكبير سيبدأ مع تقليص اعتماد أوروبا على النفط الروسي، يضيف الخبير والمختص في شؤون الطاقة، متابعا: "والذي يلبي ثلث حاجة أوروبا منه، وأكثر من نصف صادرات روسيا النفطية تذهب لأوروبا، وبالتالي فتأثير ذلك التقليص سيكون كبيرا جدا على العالم ككل، حيث الأوضاع الاقتصادية مضطربة في كل مكان ومعدلات التضخم في ارتفاع مضطرد، على وقع الحرب الروسية الأوكرانية، ما أدى لانخفاض الاستهلاك العالمي بمعدل مليون و400 ألف برميل يوميا من النفط، وذلك بسبب تراجع الاقتصاد العالمي، حتى ان صندوق النقد الدولي يتوقع انخفاض النمو الاقتصادي العالمي نقطة مئوية كاملة، من 4.4 إلى تقريبا 3.5 في المئة، وهذا كله يؤخر التعافي الهش للاقتصاد العالمي ويعرقله".
الآن يبدو أن دول الغرب بدأت تدرك حجم الكارثة، وتصريحات الوزيرة الأميركية تندرج في هذا السياق، كما يوضح الشوبكي، مضيفا: "والتي فرضت حكومتها عقوبات شاملة على النفط والغاز الروسيين لكونه لن تتضرر كثيرا بذلك، حيث أن الولايات المتحدة هي أكبر منتج للنفط والغاز عالميا، لكن في أوروبا فالوضع مختلف تماما حيث أن أي عقوبات شاملة لمصادر الطاقة الروسية، سيترتب عليها نتائج مؤلمة ومدمرة لاقتصادات أوروبا وخاصة الكبيرة منها، مثل ألمانيا صاحبة رابع اقتصاد عالمي وأول اقتصاد أوروبي، حيث سيتسبب بركوده وفقدان مئات آلاف الوظائف وارتفاع أسعار الطاقة بشكل مهول، ولهذا فبرلين تسعى للتقليص التدريجي لإمدادات الطاقة الروسية حيث وضعت خطة تمتد لغاية العام 2024 للبدء بذلك".
ويردف المتحدث: "وهكذا فموقف واشنطن الجديد هذا أقرب للمنطق في تحذيره من عواقب فرض حظر أوروبي كامل للطاقة الروسية، كون هذه العقوبات الأضخم في التاريخ لم تؤثر في الموقف الروسي ولم تدفع موسكو للتراجع، رغم مرور أسابيع على فرضها".
ويسترسل الشوبكي شارحا دوافع موقف واشنطن: "ثمة حاجة أميركية تقف وراء هذا التحول في الموقف وهي الإبقاء على متنفس للاقتصاد الروسي، بحيث لا يتم خنقه تماما بحيث تتواصل عملية استنزاف روسيا في أوكرانيا من ناحية، ومن ناحية ثانية بما يسهم في عدم دفع صانع القرار الروسي لليأس وللتهور والاقدام مثلا على استخدام أسلحة دمار شامل تقود لحرب عالمية ثالثة، في ظل تعرضه لعقوبات خانقة كلية، ووفق هذه الآلية الأميركية يتم التدرج في العقوبات على موسكو وبما لا يدفع نحو فرض حظر غربي وتحديدا أوروبي كامل على الطاقة الروسية، التي تزود الميزانية الروسية بالعملة الصعبة، فضلا عن أن أكثر من نصف واردات تلك الميزانية تأتي من النفط والغاز".
التخوف من الركود
بدوره يقول مسعود معلوف، الدبلوماسي السابق والخبير في الشؤون الأميركية، في لقاء مع سكاي نيوز عربية: "واشنطن متخوفة من ركود وانكماش اقتصاديين كبيرين، حيث معدلات التضخم الحالية هي الأعلى منذ نحو نصف قرن، وهذا ما يفسر هذه الدعوة الأميركية لأوروبا بعدم المضي نحو فرض حظر شامل على مصادر الطاقة الروسية، كون ذلك سيتسبب أيضا في مضاعفة أزمة الطاقة داخل الولايات المتحدة أكثر فأكثر".
ويمضي الدبلوماسي السابق في شرح خلفيات تحذير واشنطن لأوروبا من مغبة الحظر الكلي لإمدادات الطاقة من روسيا، بالقول: "بايدن والحزب الديمقراطي الأميركي لديهما أكثرية ضئيلة جدا في الكونغرس، ولهذا فتدهور الوضع الاقتصادي في البلاد سينعكس مباشرة على توجهات الناخبين الأميركيين في انتخابات الكونغرس النصفية، التي ستجري في غضون أشهر قليلة وتحديدا في 8 من شهر نوفمبر القادم، وبما قد يقود لخسارة محققة لحزب بايدن لأغلبيته الضئيلة للغاية وبتحوله لأقلية بالكونغرس".
هناك ارتفاع جنوني في الأسعار وخاصة أسعار الطاقة في أميركا، كما يشرح معلوف، متابعا: "وهذا ينعكس سلبا بداهة على مختلف مفاصل الحياة والاقتصاد بكافة قطاعاته، ولكون الناخب الأميركي يصوت على أساس الاعتبارات الاقتصادية بالدرجة الأولى فإن بايدن يبدو في موقف صعب ومعقد، ولا ننسى هنا أن سقوط سلفه، دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الأخيرة كان أساسا بسبب الأزمة الاقتصادية إثر تداعيات جائحة كورونا المستجد".
سكاي نيوز