فيما كانت الأنظارُ تتجه إلى انتخابات رئاسة مجلس النواب ونيابة الرئيس، ظَهَرَ إلى الواجهة الكلامُ عن استحقاقِ انتخاب رئاسة الجمهورية.
علماً أن التراتبية المنطقية والدستورية في هذه الإستحقاقات تبدأ بعد الإنتخابات النيابية، بالرئاسة الثانية (البرلمان) ثم الثالثة أي تشكيل حكومة جديدة ومن ثم الرئاسة الأولى وإنتخاب رئيس جديد للجمهورية.
لكن في الوقت الذي كان الكلام يراوح بين حدّيْن، إما سلة متكاملة من التفاهمات وإما تقطيع إستحقاقٍ تلو الآخَر، برز موضوع رئاسة الجمهورية من زاويتين، أولهما كلام رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل في إطلالةٍ بعد الإنتخابات النيابية، ومن ثم الموقف الذي أَطْلَقَه النائب اللواء جميل السيد من القصر الجمهوري في بعبدا.
تنتهي ولاية رئيس الجمهورية ميشال عون في 31 تشرين الأوّل المقبل. وتنص المادة 73 من الدستور على انه «قبل موعد إنتهاء ولاية رئيس الجمهورية بمدة شهر على الأقل أو شهرين على الأكثر يلتئم المجلس النيابي بناء على دعوة رئيسه لإنتخاب الرئيس الجديد. وإذا لم يُدع المجلس لهذا الغرض فانه يجتمع حكماً في اليوم العاشر الذي يسبق أجل إنتهاء ولاية الرئيس».
ويعني، إستناداً إلى النص الدستوري، ان إحتمالات إنتخاب خلف لعون، تبدأ في الأول من أيلول المقبل، أي بعد ثلاثة أشهر تحديداً. لكن هذا السيناريو الدستوري لم يُعتمد في لبنان منذ أمد طويل، وتحديداً بعد إتفاق الطائف. فبين إنتخاب الرئيس رينيه معوض وإغتياله ومن ثم إنتخاب الرئيس الياس الهراوي والتمديد له كما الأمر نفسه بالنسبة إلى العماد إميل لحود، ومن ثم الفراغ الرئاسي فإنتخاب الرئيس ميشال سليمان والفراغ الرئاسي مجدداً إلى حين إنتخاب عون رئيساً، تبدَّلتْ الوقائعُ السياسية والدستورية في آن واحد.
للمرة الثانية بعد رفْضه الخروج من قصر بعبدا رئيساً للحكومة الإنتقالية في 1990، تحوم الشكوك حول إحتمال تكرار عون السابقة الأولى بعدم ترْك قصر بعبدا عند إنتهاء ولايته. عون نفسه أثار زوبعةَ تساؤلاتٍ حين قال في مقابلة صحافية إنه لن يسلّم الرئاسة إلى حكومة تصريف أعمال، ثم عاد ليقول أخيراً انه سيغادر قصر بعبدا عند إنتهاء ولايته ولو كانت هناك حكومة تصريف أعمال.
لكن جاء تصريح اللواء جميل السيد، عقب لقائه رئيس الجمهورية قبل أيام، ليفتح باب الإجتهادات وخصوصاً انه أتى بعد موقف باسيل في المهرجان الذي أقامه «التيار الوطني الحر» إحتفالاً بنتائجه في الإنتخابات النيابية. فباسيل لوّح بثلاثة أمور: أولاً بقوله «اذا في حدا بالغلط عم يفكّر يقايضنا رئاسة المجلس بنيابة الرئاسة، فهو غلطان ومسترخصنا»، وثانياً بدعوته لتجنب الفراغ الرئاسي إلى العمل «باقتراحنا بتعديل دستوري محصور بعملية الإنتخاب، لتكون بشكل مباشر من الشعب وعلى دورتين، دورة عند المكوّن المسيحي ودورة ثانية لكل اللبنانيين، لضمان حسن التمثيل وقوة الموقع»، وثالثاً، والأكثر إثارة للإنتباه والحساسية ربطه بين إستحقاقي الحكومة والرئاسة، وذلك عبر قوله «(...) في حال المعاندة في تشكيل الحكومة، فهذا يؤكد وجود نية لعدم تشكيلها وتجاوز الدستور بإعتبار الحكومة الحالية مكتملة الصلاحيات»، محذراً «انتبهوا هذا يُسْقِط الطائف ويجعل من كل موقع ومؤسسة دستورية قائمة من دون حدود زمنية».
رَفَضَ السيّد تسليم رئيس الجمهورية صلاحياته لحكومة تصريف أعمال، فردّت أوساط بعبدا منتقدة إجتهادات السيد الدستورية ومؤكدة ان عون سيلتزم الدستور ومغادرة بعبدا في ليل 31 تشرين الأوّل، ليردّ السيد مجدداً عليها.
هذه الإشارات المتناقضة، من فريق واحد محسوب على «حزب الله» وحليف له، تترك إنطباعاتٍ حول طبيعة المرحلة المقبلة، بتقديم ملف رئاسة الجمهورية على ما عداه. وباسيل كان واضحاً في تلميحه إلى الأخطاء في الحسابات التي بنى عليها البعض رهاناته، وهو يقصد بذلك الرهان على فوزه بكتلة قليلة عددياً لإخراجه من السباق الرئاسي. علماً أن مُنافِسه أي رئيس «القوات اللبنانية» سمير جعجع حصل على حصة شبه متكافئة معه، لا بل ان جعجع سَجَّلَ تقدُّماً لافتاً في الشارع المسيحي. أما رئيس «تيار المردة» سليمان فرنجية الذي لم يحصل إلا على مقعد نجله طوني فرنجية، وسيكون له حلفاء كنائب بشري وليم طوق ونائب كسروان فريد الخازن، فلم يُخْرِج نفسَه من السباق الرئاسي، بل ان لقاءه مع باسيل في ضيافة الأمين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصرالله قبل الانتخابات، ومساهمته في تجميع أصوات «التيار الوطني الحر» في دائرة الشمال الثالثة، يفترض أن تبقيه وفق حساباته في الحلقة الضيقة لحلفاء «حزب الله» المسيحيين المرشحين للرئاسة. وهو وفى بتعهداته للحزب، وظَهَرَ ذلك واضحاً في شكر باسيل علانية له.
لكن الشكر يقف عند حدود الإنتخابات النيابية. أما الإنتخابات الرئاسية فأمر آخَر. وبما أنها فُتحت مبكراً، فإنها ستكون من الآن وصاعداً مفتاحَ الحكومة وطريقة تأليفها وتوازناتها وذلك عطفاً على السجال الحالي حول مفهوم حكومة تصريف الأعمال وإمكان حلولها مقام رئاسة الجمهورية. اذ تنص المادة 62 من الدستور على انه «في حال خلو سدة الرئاسة لأي علة كانت، تناط صلاحيات رئيس الجمهورية وكالةً بمجلس الوزراء».
بعض المروّجين لعدم ترك عون قصر بعبدا يربطون مغادرته القصر في حال لم يُنتخب رئيس جديد، بقيام حكومة فاعلة وتحظى بثقة المجلس النيابي، وهذا يتنافى مع حكومة تصريف الأعمال. في المقابل فإن تجربة حكومات تصريف الأعمال في الأعوام الأخيرة، أظهرت حرص رؤساء الحكومة على التقيد بمفهوم تصريف الأعمال الضيّق وعدم تخطيه لأي سبب كان، حتى في ظروف حساسة، كما جرى مع حكومة الرئيس حسان دياب المستقيلة. وهذا يعني ان عدم تشكيل حكومة في المهلة السابقة لإنتهاء عهد عون سيفتح باب الإشكالات الدستورية والسياسية. علماً انه سبق للقوى السياسية المحلية والخارجية ان وقفت خلف الولادة القيصرية لحكومة الرئيس تمام سلام قبل إنتهاء ولاية الرئيس ميشال سليمان، لتجنب حصول إشكالات دستورية مماثلة. في حين ان طبيعة المرحلة الحالية مختلفة.
فالخارجُ من قصر بعبدا هو عون وليس سليمان، و«الخليفة» الذي رشّحه رئيس الجمهورية مراراً أي باسيل لن يقف متفرجاً في الأشهر الأخيرة على سحب الرئاسة من يديه. ولذا فُتحت المعركة باكراً على نار الفوز في الإنتخابات، ليبقى السؤال مجدداً: هل التلويح ببقاء عون في قصر بعبدا سيكون عنوان البازار السياسي الجديد، توطئة لوضع باسيل في منصة التتويج المبكر، أم انه سيكون العكس مقدمة لحروب سياسية متجددة على وقع صراع يستجرّ بين المعارضة والموالاة وبين «التيار الوطني» و«القوات اللبنانية» الخارجيْن بحصص متعادلة من الإنتخابات، وهل سيكون بمثابة إستدراج عروض من أجل تسوية شاملة على غرار إتفاق الدوحة؟
الراي