بالتأكيد كان ديب محمد غدادة ويوسف الفليطي على دراية بأن لقمة عيشهما وعائلتيهما مغمّسة بالشقاء والتعب في أعالي جرود عرسال. لكن ما لم يكن في حساباتهما أنهما سيتشاركان طريق الموت ويدفنا في قبر واحد في بلدتهما عرسال، الثكلى والمفجوعة بفقد ثمانية من أبنائها ووريوا ثراها أمس في مأتم حاشد.
هي الطريق الوحيدة المعبّدة في جرود عرسال، حيث بساتين كرز عرسال ومشمشها ومقالع صخرها، باتجاه البلدة. طريق عقبة الجرد باتجاه وادي عطا، هي الطريق القاسية و"اللي ما في غيرها المزفّتة"، يلجأ إليها أبناء عرسال من مزارعين وعمّال في مقالع الصخر لنقل غلالهم من الجرود إلى البلدة، تمهيداً لنقلها إلى الأسواق.
شاء القدر عصر أول من أمس أن ينهي يوسف الفليطي قطاف كرزاته ومشمشاته مع أفراد العائلة المكوّنة من زوجته فطوم حسين الفليطي، وولديه بهاء ومحمد وابنتيه هدى ونورا وزوجها شحاده خالد الفليطي. توجه بعدها من بستانه في الجرد باتجاه منزله بواسطة البيك- أب خاصته عبر طريق عقبة الجرد المعبّدة.
ديب محمد غدادة، الشاب الثلاثيني، كان قد أنهى أيضاً تجهيز حمولة الصخر من أحد مقالع البلدة ليقصد الطريق نفسها، عقبة الجرد ـ وادي عطا كما درجت العادة لدى سائر سائقي الشاحنات. لكن غدادة، الوالد لسبعة أبناء، أكبرهم عمره 11 سنة، فقد السيطرة على شاحنته ليجتاح سيارة البيك- أب الخاصة بيوسف الفليطي قبل أن يختار الاصطدام بمبنى بئر مياه البلدة المجهز منذ ثمانينيات القرن الماضي بخزّان ضخم وجدران دعم إسمنتية.
الكارثة كبيرة، فقد توفي الفليطي مع أفراد عائلته وصهره (ونجت ابنتان لم تكونا موجودتين)، فيما نقل غدادة جريحاً إلى مستشفى الرحمة وكانت حالته تستدعي نقله إلى مستشفى الجعيتاوي بسبب الحروق البليغة التي أصيب بها. لكن هذا لم يحصل، ولم يتم إدخاله إلى المستشفى ولا حتى إلى الطوارئ، بحسب بيان للنائب ملحم الحجيري الذي طالب بـ"تحقيق سريع مع إدارة مستشفى الجعيتاوي لأنها لم تدخل جريحاً في حالة خطرة حتى إلى الطوارئ"، مشدّداً على أن "تصرّف المستشفى غير مسؤول ومجرد من أبسط الواجبات الإنسانية والأخلاقية ويستدعي ملاحقة المستهترين بأرواح الناس".
طرقات غير معبدة
الإهمال الذي تعيشه البلدة، التي تستضيف منذ أكثر من عشر سنوات أكثر من ضعفي عدد أبنائها من النازحين، هي نفسها التي كانت تعجّ بالمسؤولين صبحاً ومساء قبل تحريرها من الجماعات الإرهابية والتكفيرية مغدقين على أهلها بالوعود الإنمائية والخدماتية. المساحة الشاسعة للبلدة المترامية في السلسلة الشرقية عند حدود الوطن، لا يوجد فيها طريق معبدة تصل البلدة بالجردين الأوسط والأعلى إلا طريق عقبة المبيضة ـ عقبة الجرد ـ وادي عطا، علماً أن ثمة طرقات أخرى يمكن الاعتماد عليها فيما لو كانت معبّدة، مثل طريق وادي حميد ووادي الزعرور، ووادي الرعيان إلا أنها جميعها غير صالحة للسير، ولا يستعملها العراسلة والسوريون لوعورتها.
رئيس بلدية عرسال باسل الحجيري أكدّ لـ"الأخبار" وجود طرقات أقل خطورة موجودة في عرسال إلا أنها لا تستخدم بسبب غياب الاهتمام بها من قبل الدولة، موضحاً أنه طلب أمس من الجيش إقفال طريق عقبة الجرد ـ وادي عطا أمام الآليات الكبيرة على أثر الحادث، على أن توزع الآليات على الطرقات الأخرى وإن كانت غير معبّدة، بغية تقليص المخاطر التي يتعرّض لها العراسلة.
مخاطر العمل في الصخر
لا تختصر المخاطر التي يتعرّض لها أبناء بلدة عرسال على الطرقات فقط، وإنما ثمة مخاطر في قطاع الصخر نفسه. تخسر عرسال عدداً من أبنائها بحوادث طارئة مختلفة كما تؤكد ريما كرنبي عضو مجلس بلدية عرسال لـ"الأخبار". تشير كرنبي إلى أهمية حجر الزينة في اقتصاد عرسال وتأمين فرص عمل لمئات العائلات. لا تخفي أن القطاع تعرّض لأضرار كبيرة خلال الأحداث التي حصلت في جرود عرسال، ومن ثم أزمة المازوت التي أنهكت القطاع بأكمله، وقلّصت مؤسساته من 600 مؤسسة تعمل في مجال الحجر الزينة، من المقلع وصولاً إلى المخارط مروراً بالمناشر إلى ما يقارب الربع. يعمل في كلّ مؤسسة وبمعدل وسطي ما بين 6 إلى 7 عمال إضافة إلى أصحاب المناشر أو المقالع، في حين تكمن الخطورة في أن هذا العمل يحتاج إلى "وعي ودراية وإجراءات احترازية ووقائية تكاد تكون معدومة، خصوصاً أن أعمال تفجير الصخر تؤدي إلى إصابة عدد من العمال في عيونهم وأجسادهم نتيجة قلة الاحتراز، كما أن عدداً ممن يتعامل مع المناشير تعرضوا لقطع أياديهم أو أصابعهم، إضافه إلى مخاطر برك "الكمخة" (الغبار والمياه التي تتجمّع من آثار أعمال قطع الصخر في برك مكشوفة، هي أشبه برمال متحركة لزجة)، لأنها غير مجهزة بتصوينة أو سياج، وقد غرق فيها أطفال وحتى عمال أثناء تنظيفها". وتؤكد كرنبي أن عرسال "خسرت عدداً من أبنائها منذ سنوات بسبب هذه البرك، وقد طلبنا من أصحاب المناشير تشييد جدران حول تلك البرك إلا أن أحداً لم يتقيّد".
تؤكد كرنبي ضرورة "الوعي الذاتي" من أصحاب المناشير والمقالع والشاحنات والكشف على الآليات بشكل دوري حتى لا نخسر سائقاً أو أشخاصاً مدنيين كما حصل أول من أمس".
وإذا كان من مسؤولية يتحمّلها أحد عن كارثة عرسال، فهي الدولة بسبب إهمالها أبسط خدماتها الإنمائية، وعليها أن تتحمّل مسؤولياتها تجاه أبنائها، لجهة تعبيد الطرقات التي تستعمل يومياً من قبل مواطنيها وجيشها، وعليها أيضاً أن تعيد تفعيل عمليات الكشف على الآليات والسيارات بقصد توفير السلامة العامة للجميع، عدا عن الرقابة الصحية والاستشفائية الفاعلة في مراقبة أداء المستشفيات، وموت المواطنين على أبوابها!
رامح حمية - الأخبار