نجح ثلثا حكومة تصريف الاعمال امس في عقد اول اجتماع لها. هو الاول بصفتها هذه منذ اعتبارها مستقيلة في ايار الفائت، والاول منذ شغور رئاسة الجمهورية مطلع الشهر الفائت. في الحسابات اللبنانية يحدث ان يكون الاول آخر الارقام، ويحدث ان يكون اولها.
حتى اجتماعها الاول البارحة، كانت حكومة الرئيس نجيب ميقاتي تتصرف على انها حكومة تصريف اعمال فحسب بحكم كونها مستقيلة دونما انتقال صلاحيات رئيس الجمهورية اليها جدياً عملاً بالمادة 62، ما دامت احجمت عن استخدامها بتغليبها واقع انها حكومة تصريف اعمال. الا ان اجتماعها الاول نزع عنها عقدة النقص المستمرة منذ ايار وهي ان ليس لها ان تلتئم، ومنذ تشرين الثاني ان ليس لها تولي صلاحيات رئيس الجمهورية. بدءاً من امس اضحت حكومة مكتملة المواصفات. تملك ان تجتمع في اي وقت، وان تتخذ قرارات تحتمها الضرورة. بيد ان شرطها الاول نصابها السياسي المتقدّم على نصابها الدستوري.
اولى ثمار نجاح الاجتماع الاول، انه يفتح الباب على تعميم التجربة على مجلس النواب، بأن تعود الهيئة العمومية الى الانعقاد للتشريع في اي وقت. لا يحتاج البرلمان الى عقد يحتم اجتماعه لاسباب ثلاثة بديهية متضافرة متلازمة: اولها انه في قلب العقد العادي الثاني، وثانيها انه في انعقاد دائم بسبب استقالة الحكومة الى حين تأليف حكومة جديدة، وثالثها انه في اجتماع دائم لانتخاب رئيس للجمهورية. تغطي العامل الثالث المادة 75 بتقييد مجلس النواب بحصر اي جلسة يعقدها لانتخاب الرئيس بالاستحقاق هذا فحسب دونما اعطائه حق التشريع. قبلها وبعدها يملك ان يشترع.
بذلك ليس النص الدستوري هو الحائل دون عقد البرلمان اجتماعه، بل المشكلة المنسحبة عليه التي اوجد لها الرئيس نجيب ميقاتي حلاً في ملعبه بتوفير نصاب ثلثي وزراء حكومته كي تلتئم. مهمة الرئيس نبيه برّي اقل شقاءً. يحتاج الى النصف زائداً واحداً لانعقاد مجلس النواب. نصاب كهذا ليس مستعصياً بالضرورة.
بيد ان اجتماع حكومة ميقاتي امس بمفاجأة الساعات الاخيرة بعد بيان تسعة وزراء باحجامهم عن المشاركة فيها، ثم تراجع اثنين منهم هما وزيرا الشؤون الاجتماعية والصناعة، يشير الى بضع ملاحظات:
اولاها، على اهمية انتخاب رئيس للجمهورية، وهو الاستحقاق الدستوري الذي يتجاوز ما عداه وتُفترض المسارعة اليه، الا ان التئام مجلسي الوزراء والنواب لا يسعه انتظار انتخاب الرئيس كي يحصل. لأن لا فراغ في السلطات الدستورية العليا ما يقتضي تسيير الاعمال بتلك القائمة، يمسي حتمياً اجتماع السلطتين الاجرائية والاشتراعية. اما الحافز الفعلي للاجتماع وعدم انتظار ما لن يأتي قريباً، فهو العُرف الذي افتتحت سابقته عام 1988 طوال 14 شهراً، وجُرِّب مجدداً عام 2007 طوال ستة اشهر، وبلغ ذروة عام 2014 طوال سنتين ونصف سنة - حتى الامس على الاقل - بالاستغناء عن انتخاب رئيس للجمهورية، وبات العُرف هذا حدثاً عادياً متوقعاً كلما ازفّ موعده. اضف ان احداً لا يملك التكهن بمدة شغور الرئاسة الاولى، ناهيك بعدم استعجال الواسعي التأثير والنفوذ الوصول الى انتخاب خلف للرئيس ميشال عون. ليست وحدها القواعد الدستورية توجب - إن لم تلزم - اجتماع السلطتين شبه المعطلتين، بل كذلك حقائق الحياة اليومية المتدهورة للبنانيين.
ثانيها، لو لم تكن المستحقات المالية للمستشفيات لتوفير ادوية الامراض المستعصية ومعالجة الكلى، ربما لم تلتئم جلسة مجلس الوزراء البارحة. اياً كانوا المغتبطين او مقطّبي الجبين، فإن انعقاد المجلس ليس قياسياً حتمياً لما يمكن ان يتأتى في المرحلة المقبلة، ومن غير المؤكد ان انعقاده متاح مجدداً بسهولة الجلسة الاولى على اهمية ان يحصل وضرورته. الواقع ان التئام الجلسة، وان انتهت في جولة اولى الى رابح وخاسر، ليست خاتمة المطاف. ما بَانَ عشيتها وغداتها ان ميقاتي والنائب جبران باسيل تبادلا اكثر من جس نبض. اقرب ما يكونا تلاكما. بفارق صوتين فقط يعودان الى التيار الوطني الحر انعقد مجلس الوزراء.
دلّ ذلك على ان المنازلة لم تنتهِ بعد. افصح باسيل عن انه لا يزال، منفرداً، صاحب الحصة الكبرى في حكومة ميقاتي وإن بعد انتهاء ولاية عمّه الرئيس كما لو ان ملائكته لا تزال حاضرة. دلّ ايضاً على ما كان مضمراً في المفاوضات المتعثرة لتأليف الحكومة بين ايار وتشرين الاول، وهو ان رئيس التيار الوطني الحر كان اكبر الرابحين فيها، سواء في الذهاب الى ثلث معطل جديد في الحكومة الجديدة، او الاياب الى الثلث المعطل الحالي الذي يملكه في حكومة تصريف الاعمال.
ثالثها، فيما لباسيل في الحكومة الحالية اكثر من ثلثها، للافرقاء الآخرين الخمسة مجتمعين، برّي وميقاتي وحزب الله ووليد جنبلاط وسليمان فرنجية، اقل من ثلثيها. بين مَن تغيّب وزير المهجرين حليف لحزب الله، مثلما بين مَن حضر حليف له كنائب رئيس الحكومة. تالياً فإن جدول الاعمال لاسيما بند المستشفيات هو صاحب الدعوة الى الجلسة اكثر منها العضلات السياسية. لكن الاهم في ما رامَه رئيس التيار الوطني الحر، وقد يكون أحد اسلحته في المرحلة المقبلة، ان لا جلسة جديدة لمجلس الوزراء تستثني مراجعته او تفاهم الحد الادنى معه، وفي ابسط الاحوال الحاجة الى توقيع الوزراء المختصين في حصته. الواقع ان حزب الله ليس بعيداً من هذا الحساب ابداً.
لا احد في الحكومة المستقيلة ولا خارجها توهّم، في ضوء انعقاد جلسة الاثنين، ان حزب الله تخلى عن حليفه المسيحي او اهمله او توخى الاقتصاص منه، وليس في حسابات اي فريق، مؤيد لباسل او كارهٍ له - والاخيرون هم الاوفر عدداً - ان الرجل خسر معركة مواجهته مع ميقاتي التي بدأت مذ استقالة حكومة انتخابات 2022.
رابعها، دافع حزب الله عن جلسة امس على انها استثناء ليس الا، لأن ثمة ما كان يبررها صحياً واجتماعياً. لكن المعلوم اكثر ان الحزب، في هذا الوقت بالذات واكثر من اي وقت مضى، في حاجة الى حليفه المسيحي وهو يقارب انتخابات رئاسة الجمهورية ويريد الذهاب اليها بمرشح هو فرنجية يعتبره رئيس اكبر كتلة نيابية ومسيحية في البرلمان اعتى خصومه الشخصيين والسياسيين، في وقت يضاعف باسيل ويبالغ في رفض تأييده له. رغم تباعدهما هذا لم يُدرْ اي منهما للآخر ظهره او نقم عليه. يتقدّم الاستحقاق الدستوري المعلق اولوية اهتمام الحليفين الشيعي والمسيحي، وهما يخوضان من خلاله احدى اصعب المعارك السياسية بإزاء مستقبل غامض للبلاد ومصير يزداد سواداً وتشاؤماً.
نقولا ناصيف - الأخبار