لعل هذان الشارعان، الجميزة ومار مخايل، هما الأكثر شهرةً وجاذبية في المدينة، عند المقيمين والعابرين على حدٍّ سواء. فبين معجزة الإعمار التّي كانت المدماك المؤسس لهذه الشهرة والإقبال، والبؤس العمومي المتربص بسكان شارعي الجميزة ومار مخايل، والقنوط والعجز.. وصدمة الانفجار والانهيار التّي طُليت ورممت ورُقعت بدولارات الدعم والسّياحة، هوة واسعة قسمت الناس إلى شطرين، وجعلت السكان القاطنين هنا في مواجهة مع قطاع الخدمات وأصحاب المصالح، بل وراكمت نقمة متبادلة بينهما وصلت حدّ التظاهر والاحتجاج.
فمنذ حوالى الأسبوع، أقام سكان الجميزة ومار مخايل تظاهرة احتجاجية تحت شعار "عيرونا راحتنا"، أعربوا فيها عن امتعاضهم الشديد ورفضهم الحاسم للفوضى والضجيج، الناجمين عن الانتشار الواسع للحانات والمطاعم والمرابع الليلية، هذا فيما توعدوا المسؤولين في الوزارات المعنية وأصحاب المصالح من ملاهي ومراقص وحانات بتصعيد قد يصلّ حدّ العنف، بعد سنوات تُقدر بالعشر من المطالبة والمفاوضة والمساومة على راحتهم وأمانهم. بالمقابل، يلوح في الأفق طيف لامبالاة من قبل هذه المصالح، بأصحابها وموظفيها، باعتبار أن التوتر والشحن الإعلامي الذي أفرزه السّكان "مجحف" بحق هذه المصالح، التّي تشكل عصب الجذب السّياحي للمنطقة المنكوبة، بالرغم من كون غالبية هذه المحال قد أعيد افتتاحها أو تأسيسها مؤخرًا بعد تفجير المرفأ.
تفاصيل السّجال
في حديثها مع "المدن"، تُشير إحدى السيدات القاطنات في شارع الجميزة الرئيسي منذ حوالى عشرين سنة إلى أن ماضي المشكلة والتّي تأججت مطلع 2010، بُعيد افتتاح عدد ضخم من الملاهي والحانات لاستقطاب المزيد من السّياح الأجانب إلى هذه المنطقة، والتّي هي تاريخيًا مساكن وأحياء شعبية يقطن فيها غالبًا المسنون، ليست مجرد تفصيل أمام هول ما يشهده السّكان اليوم؛ إذ أن هذه الحانات التّي تكتظ طيلة الأسبوع ولا يغادرها الرواد حتّى بواكير الصباح الأولى، مصحوبين بالموسيقى الصاخبة والكحوليات والرقص وضجيج أصواتهم الهادرة في فضاء المكان، سببت في المقلب الآخر إقلاق راحةٍ دائمًا للسكان، "إذ أن الرواد يمرحون ويسهرون طيلة الليل وعلى وقع خليط الموسيقات المنبعثة من كل مكان والتّي تتجاوز عتبة 55 ديسبل التّي فرضتها الوزارات المعنية، يسهر قسراً السّكان المتعبون متوسلين للنوم العميق والهادئ"، هذا فضلاً عن الاحتشاد الخانق وزحمة السيارات، التّي جعلت الشارعين منطقة غير قابلة للسكن". تضيف السّيدة: "نحن لا نطالب بإقفال هذه المصالح، بل نطالب بفرض القانون والتنظيمات التّي من شأنها التخفيف من هول الأزمة التّي أرهقتنا، ونطالب الجهات الأمنية بضبط المخالفين من الرواد الذين يفتعلون المشاكل أو يتعدون على عماراتنا بالجلوس أو الوقوف في مداخلها وتناول المشروبات وأحيانًا بترك فضلاتهم الجنسية فيها".
يؤكد جورج م. المتقاعد الستيني القاطن في شارع مار مخايل على ما قالته السّيدة: "شارع بيتنا لم يعد آمنًا أبدًا، نسمع حتى الصباح صوت الساهرين تحت نوافذنا، الذين يخلفون لاحقًا نفاياتهم منتظرين من يجمعها، هذا وناهيك عن كوننا لا نستطيع ليلاً أو نهارًا المشي على الأرصفة التّي ندفع نحن إيجاراتها سنويًا للبلدية، لأن معظم المطاعم والحانات قررت استيطانها بحجة أنها استأجرتها أيضًا من البلدية، وأنا في عمر لا أستطيع المشي بصورة آمنة وسط الشارع الذي تمرّ فيه السيارات المسعورة بأعدادها الضخمة. رائحة احتراق الإهراءات باتت هامشية أمام رائحة النفايات المتراكمة على نواصي الشارعين، أما الأزمة الكبرى فهي أننا لم نشفَ بعد من صدمة التفجير، وما زلنا نحاول تدارك ما حصل ونسعى لترميم ما تدمر من ممتلكاتنا وأنفسنا، بينما الآخرون يأتون مدهوشين من جمال وسرعة الإعمار ويجلسون في المقاهي والمطاعم والحانات الفارهة، التّي لا نستطيع نحن أبناء المنطقة الجلوس فيها، ويتصرفون بحريتهم من دون الأخذ بالاعتبار أنهم يعتدون على راحتنا ومساكننا".
أصحاب المحال يعترضون
في تظاهرتها، نددت لجنة أهالي سكان الجميزة ومار مخايل بتغاضي ولامبالاة المسؤولين في الوزارات المعنية بمطالبهم الملّحة، وبأصحاب المحال المخالفة، والذين يتذرعون -حسب اللجنة- بحجج واهية لتعدياتهم، وبالرغم من أن القانون ينصّ على مسافة معينة تفصل بين الحانات، وبالرغم من محاولة المسؤولين في وزارة السياحة والداخلية ضبط الفوضى والضجة، عبر فرض إقفال هذه الحانات ليلاً عند الساعة 12 في منتصف الأسبوع، و12 ونصف في نهاية الأسبوع، وإجبارهم على خفض الموسيقى عند السّاحة الحادية عشر.. لا يزال الأهالي ممتعضين.
من جهتهم، يؤكد أصحاب هذه المحال أنهم ملتزمون بالقانون، وفي حديث "المدن" مع عدد منهم، أشاروا إلى أن بعض التفاصيل التّي روّج لها مبالغ بها حتمًا. إذ أن حاناتهم ومصالحهم في حالة انهيار مطرد، إذ أن رواد الحانات يتمركزون في عدد محدد، بينما معظم الحانات لا يرتادها طيلة الأسبوع إلا أعداد قليلة، وأجمعوا على كونهم يتفهمون مطالب الأهالي، إلا أنهم يطالبونهم بالتريث والأخذ بالاعتبار أن هذه المصالح تعيش من أرباحها عشرات العائلات من موظفين ونُدل وعاملين أجانب وغيرهم، وليس بالإمكان إقفالها نزولاً عند رغبة بعض الممتعضين. وأصروا أن الأزمة الاقتصادية التّي أرخت بأثقالها على كواهلهم التّي لم تشف بعد من خسائر التفجير، هي عامل أساسي في انهيار مشاريعهم لصالح المؤسسات الفارهة جداً أو المحال الشعبية التّي تقدم سلعها من مأكل وكحول بأرخص الأسعار. هذا وناهيك عن فكرة الأرصفة التّي "يتهموننا أننا نتعدى عليها في حين أننا ندفع إيجاراتها لبلدية بيروت".
البلدية ووزارة السياحة
تابعت "المدن" مع مصدر في بلدية بيروت تفاصيل هذا السّجال، الذي يتقاذف فيه المتخاصمون التهم والمسؤوليات، وعلمت أن هذا الملف المفتوح منذ سنوات لا تزال محاولة حلّه نائمة في أدراج البلدية والوزارات المعنية، ذلك لأن هذين الشارعين باتا عصب جذب سياحي، له دوره الفعال في اجتذاب السّياح والمغتربين والمقيمين من الطبقات الميسورة، فالدولة طامعة اليوم بالمزيد من الدولارات بأي شكل من الأشكال، حتّى لو كانت على حساب مواطنيها. وأصحاب المصالح يحاولون تعويض خسائرهم التّي سببها التفجير والانهيار. أما المواطنون فيغتاظون من هذه الفوضى ومظاهر الترف الفضائحية، وهم في سعيهم لتأمين لقمة العيش في أعتى وأشرس الأزمات التّي تلاحقهم. وإن كان الحلّ هو تفعيل القرارات الصادرة والقوانين وتنفيذها، كتطبيق الملحق رقم 10 من قرار وزير البيئة رقم 52/1 تاريخ 29 تموز 1996 لجهة التلوث السمعي والبيئي، وقرار رقم 162 الصادر عن وزير الداخلية ووزير السياحة تاريخ 25 2009 لتحديد شروط عمل المطاعم والحانات والملاهي والمقاهي والاندية الليلية والمراقص ضمن المناطق السكنية، كما عرض الأهالي في سلسلة مطالبهم، التّي تضمنت أيضاً إقفال المؤسسات السياحية غير المرخصة والتي تخالف المادة الرابعة والخامسة من المرسوم رقم 15598/2 تاريخ 21/10/1970 لجهة نوع التراخيص في المناطق السكنية والمسافة ما بين هذه المؤسسات، كما وتحرير الأرصفة من التراخيص، ليتمكن كافة السكان من السير على هذه الأرصفة...
حاولت "المدن" التواصل مع عدد من المعنيين في وزارة السّياحة وعلى رأسها الوزير، لمعرفة دور الوزارة في هذه المعضلة، وإن كانوا يحاولون وضع خطط أو حلول لهذه الأزمة في الشارعيين السياحيين، ولم نحصل على أي جواب واضح، لا من الوزير أو من مستشارته التّي كانت خارج لبنان. كما تواصلت "المدن" مع عدد من المعنيين في وزارة الداخلية والبلديات، الذين تحفّظوا عن الإدلاء بأي تصريح في هذا السّياق.
غالبية مطالب السّكان محقة في الصميم. فهؤلاء السّكان يطلبون فقط راحتهم في بيوتهم، ويحتاجون فعلاً لأذان رسمية تصغي لمطالبهم، وتبدي رأيها وتعرض حلولها، إلا أنه من المهم أن يعرف الأهالي أنهم في مطالبتهم هذه والتّي يستهدفون فيها قطاعاً منهاراً أساسًا ويرزح عاملوه تحت هامش الفقر قد تكون صدامية نوعًا ما. ومن المهم اليوم البحث عن حلول ترضي جميع الأطراف. وعلى البلدية والجهات المعنية تحمل مسؤولياتها تجاه المواطنين، الذين قتلتهم دولتهم في تفجير العاصمة ودمرت منازلهم ومصالحهم ومشاريعهم.. واليوم تقف عاجزةً أمام مطالبتهم بأبسط الحقوق البديهية، كالراحة والأمان.
بتول يزبك - المدن