احتضنت كاتدرائية القديسين غريغوريوس المنوّر والياس النبي للأرمن الكاثوليك، وسط بيروت، حفلة موسيقية استثنائية لمناسبة الذكرى الخامسة والستين لتأسيس الكاتدرائية، بدعوة من رئيسة المعهد الوطني العالي المؤلفة الموسيقية هبة القواس، وأحيتها الأوركسترا الفلهارمونية الوطنية اللبنانية بقيادة إحدى أبرز القادة الموسيقيين على مستوى العالم المايسترو الروسية دايانا غوفمان، وبحضور كاهن الكاترائية الأب رافي أوهانسيان وجمع من الشخصيات السياسية والثقافية والإعلامية وجمهور الموسيقى الكلاسيكية في لبنان.
ساعة من التجلّي الموسيقي تحت عنوان "السلام والعدالة" قدمتها الأوركسترا التي حلّقت في فضاءات الإبداع والرّقي والفن الرفيع مع عازفين في قمة المهارة والاحتراف، بقيادة مبهرة لقائدة الأوركسترا دايانا غوفمان.
حضور آسر بقيادة أنثوية تخطف الأنفاس، جمعت الرّقة والقوة، والعذوبة والصلابة، والاحتراف اللافت، لنجمة الحفلة قائدة الأوركسترا الروسية المتميزة والشخصية البارزة في عالم الموسيقى الروسي دايانا غوفمان، التي تتميز بموهبتها الاستثنائية في الغناء الأوبرالي والقيادة الأوركسترالية. وهي الحاصلة على دبلوم مع مرتبة الشرف كقائدة أوركسترا من معهد ريمسكي كورساكوف سانت بطرسبرغ الحكومي للموسيقى، ودراسات عليا في الأداء الأوركسترالي في معهد ديتمولد العالي للموسيقى في ألمانيا. كما تخرجت أيضًا من معهد موسكو الحكومي للموسيقى كعازفة بيانو. وقادت غوفمان العديد من الأوركسترات الروسية البارزة، بما في ذلك أوركسترا موسكو السمفونية، وأوركسترا سانت بطرسبرغ الأكاديمية السمفونية، وأوركسترا تاسكي السيمفونية. وهي الحائزة على العديد من الجوائز والأوسمة المرموقة، بما في ذلك لقب "فنانة روسيا الفخرية". وتشغل أيضًا مناصب قيادية في منظمات ثقافية دولية، كما تشغل منصب المدير الفني والمدير العام لمسرح موسكو الإقليمي "انظر إلى الموسيقى".
يُعد هذا الحفل الموسيقي المميز حدث لا ينسى لعشاق الموسيقى الكلاسيكية، حيث اجتمعت كل عناصر الإبداع والمتعة والجمال في اكتمالٍ لمشهدية موسيقية نادرة الحدوث، توّجها البرنامج الموسيقي الخلاب لتحفتَي تشايكوفسكي الخالدتين "روميو وجولييت" و"السمفونية الرابعة".
في مستهل الحفل، كانت كلمة معبرة لرئيسة المعهد هبة القواس، خاطبت فيها عمق عنوان الاحتفالية بما يتضمنه من عدالة وسلام وجاء فيها:
"أيها السائرون على خيوط هذا الوجود، في البدء، لم تكن الكلمة، ولا الحجر، في البدء، كان ارتجاف الوعي الأول: أنّ هذا الكون، بكل اتساعه، ظالمٌ إن تُرك بلا عدالة، وعقيمٌ إن غاب عنه السلام. السلام والعدالة، كائنان لا يسكنان النصوص ولا الشعارات، بل يتخلّقان في قلب كل من يؤمن أن الإنسان وُجد لا ليُستَعبَد، بل ليحلم .ولا ليُعاقب بالوحدة، بل ليُفتدى بالحبّ.
لهذا اجتمعنا اليوم .في هذه الذكرى الخامسة والستين للكاتدرائية، نجدد العهد لا للمكان وحده، بل لما مثّله عبر الزمن: محرابُ من قاوم بالصلاة، ومن صارع بالأمل.
ونأتي بالموسيقى، لا كترفٍ ولا تزيين، بل كقوة شافية، قادرة أن تزيح عن أرواحنا صدأ الخوف. نأتي بها عبر الأوركسترا الفيلهارمونية اللبنانية الوطنية، هذا الجسد الحي الذي يعبر بنا فوق الجراح دون أن ينكرها، ويُحوّل الألم إلى مقطوعة حبّ خالدة.
تحت قيادة دايانا غوفمان، تلك التي لا تقود بالعصا بل بالوعي العميق لإيقاع الروح،
سنخوض الليلة رحلة إلى داخلنا، رحلة مع تشايكوفسكي برائعته روميو وجولييت وسمفونيته الرابعة. اصغوا الليلة اليه، إلى تشايكوفسكي، كمن يُعِدُّ نفسه لعبورٍ سرّي نحو حقيقة أعظم. فكل نغمة سهمٌ في فراغ العالم. وكل صمتٍ بين نوتتين... وطنٌ صغير يولد. مرحبًا بكم في موطن الحب والعدالة والسلام."
ثم كانت كلمة مرحّبة لكاهن الكاتدرائية الأب رافي أوهانسيان الذي استشهد بمقولة جلال الدين الرومي "الموسيقى هي أزيز أبواب الجنة" للدلالة على رمزية الموسيقى الروحية والإنسانية العميقة، وربطها بعنوان الأمسية "السلام والعدالة"، وما يمثله هذان الشعاران للبشرية. وشكر أوهانسيان الكونسرفتوار ممثلاً برئيسته والأوركسترا والقائدة والموسيقيين على الحفل في مناسبة تأسيس الكاتدرائية الخامسة والستين، مرحّباً بالحضور. وقدّم الأب أوهانسيان إلى القواس هدية رمزية تجسّد الكاتدرائية.
وبكل ما حملت من شحنات قيادية، افتتحت غوفمان الحفل بعصاها السحرية المتوهجة، وبحركة يديها الممسكتَين بسلطة القيادة، وبتعبيرات جسدها النحيف المتماهية مع كل حركة ونغمة ونوتة. فكانت انحناءاتها وتعبيراتها الجسدية كجسر عبور تجتازه مقدمة "روميو وجولييت" الشهيرة لتشايكوفسكي التي استهلت بها الحفلP.I. Tchaikovsky (1840-1893) ،Overture - Fantasy "Romeo and Juliet"
في هذه المعزوفة، نجح العازفون في نقل جو الحب والمأساة عبر النغمات المتناغمة والمعبرة، فعكسوا ببراعة تقاطع المشاعر بين الحنين والرفض، بين العاطفة العميقة والنهاية المأساوية، في طغيان لل Pianissimo على العمق الموسيقي للمعزوفة، الذي يُبرز اللمسات الدقيقة للعزف ويشعر الجمهور بأنهم يدخلون عالم روميو وجولييت بأحاسيسهم وأفكارهم، في محاكاة للوجد في قلوب العشاق.
وفي أداء جارف للأوركسترا التي تحرّكها شراسة الحركة القيادية لغوفمان، اجتاحت موسيقى السمفونية الرابعة لتشايكوفسكي(Symphony no. 4 in F minor) أنفاس الحضور وفضاء الكاتدرائية وخشوع الأروقة والأيقونات، في انعكاس عميق لنزاع الروح البشرية مع المصير الذي تتضمنه السمفونية. فدخل العازفون في نغمات مليئة بالحزن والوحدة، تُجسد الكوابيس الداخلية التي تصارع العقول والأنفس، وأدارت غوفمان تحولات الأجواء من الحزن إلى التفاؤل، من الكآبة إلى اللحظات المضيئة من الأمل، بأداء رشيق ومؤثر من جميع العازفين، في تداخل انسيابي للآلات الوترية والنفخ والإيقاعات والصنوج التي تردد صداها في الصمت المؤثّر والأسماع المتلهّفة إلى موسيقى تفتح في الروح نوافذ السحر والدهشة، فتحوّلت كل لحظة في الحفل إلى تجربة موسيقية لا تُنسى.
وفي الأجزاء اللاحقة، يتبدل المزاج ليظهر الفرح المفاجئ كأنه التوق إلى الأمل، على الرغم من المحن المتتالية. فيبدأ العزف بشكل غامض ويتصاعد إلى مشهد مليء بالقوة والدرامية، ليُظهر تناغمًا ساحرًا بين العازفين الذين شكّلوا فسيفساء لحنيّة متجانسة الأقواس والأنامل، ولكن في ارتقاءٍ مختلف عند كل منهم إلى عالمه العزفي الخاص.
روائع الموسيقى والتأليف والقيادة والعزف اجتمعت في هذا الحفل، لتبقى أصداؤها في الروح لوقت طويل بعد نهاية الأمسية. إنها لحظات من التجلي والانخطاف، حيث كانت الموسيقى أكثر من مجرد صوت يستبيح النفس بجلال وهيبة، بل كانت رحلة في أقاصي المطلق.