وسط الجمود القاتل الذي يسيطر على المشهد الداخلي في ظل استمرار تعطل عمل المؤسسات الدستورية، وتراجع اولوية الانهيار الاقتصادي والمالي امام تقدم المناكفات السياسية الشعبوية على الملفات الحيوية التي تعنى بشؤون الناس، كما هو حاصل بالنسبة الى ملف الكهرباء، يحلّ مطلع الشهرالمقبل استحقاق بدء العمل بسعر الصرف الرسمي الجديد للدولار على اساس 15 الف ليرة، وذلك بعدما بدأ العمل بالاجراءات الضريبية الجديدة التي اقرتها وزارة المال، اضافة الى تلك التي اقرها قانون الموازنة العامة، فيما يحلّق الدولار في السوق السوداء على ارتفاعات خيالية تحلّق معها اسعار السلع والمواد الغذائية الى مستويات تفوق الزيادات الحاصلة. وكل ذلك يحصل والسلطات غائبة عن كل أشكال الرقابة والمتابعة.
في ظل هذه الاجواء الملبدة بغيوم العواصف المقبلة على البلد، اصدر صندوق النقد الدولي اخيراً تقريراً حول المساعدة التقنية التي قدمها الصندوق بناء على طلب نائب رئيس حكومة تصريف الاعمال سعادة الشامي في ايلول الماضي في شأن كيفية مساعدة الحكومة في مراجعة السياسة الضريبية المطلوبة للبنان تحت عنوان اعادة السياسة الضريبية الى المسار الصحيح. وكان للبعثة التقنية سلسلة لقاءات على مدى نحوعشرة ايام مع السلطات المعنية، كما مع القطاع الخاص والبنك الدولي، وخلصت الى تقييم الواقع وصولاً الى تقديم رزمة من التدابير الفورية وعلى المديين القصير والمتوسط، تمتد حتى سنة 2025.
يكشف الصندوق عن تراجع الايرادات الضريبية الى اقل من النصف بين عامي 2019 و2021 على خلفية ما وصفه بأعمق ازمة اقتصادية منذ نهاية الحرب الاهلية. ويرى انه في حال لم تُتخذ الآن تدابير ضريبية نشيطة، فمن المرجح ان يستمر انخفاض الواردات حتى 2023، مما يسفر عن تداعيات حادة، ومن ثم تدهور المؤسسات العامة، وتقويض النظام الضريبي، وتفاقم عدم المساواة والتشوهات.
واذ يحدد الصندوق خيارات اصلاح السياسة الضريبية لوقف نزف الايرادات الآن وعلى المدى القريب والانتقال الى نظام ضريبي اكثر كفاءة وفعالية وشمولًا في المدى المتوسط، يرى ضرورة اعتماد رؤية شاملة للنظام الضريبي بدلاً من المنهج المجزأ القائم على تدابير غير منسقة. ولا يغفل الدعوة الى ضرورة تقييم اثر التدابير الموصى بها على اكثر الفئات ضعفًا واعتماد تدابير للانفاق التعويضي بحسب الحاجة، وهو ما قد يشمل توسيع شبكة الامان الاجتماعي الطارئة.
في التوصيات الفورية، يقترح الصندوق رزمة تدابير على صعيد الضريبة على القيمة المضافة ورسوم الاستهلاك وضرائب الدخل، منها استخدام سعر الصرف في السوق، في شكل موحد في كامل النظام الضريبي، مع امكان استخدام سعر منصة صيرفة اثناء العملية الانتقالية، اعادة القيمة الحقيقية للتكليف بالضريبة على القيمة المضافة الى نحو 75 الف دولار، واعتماد نظام الربط التلقائي بالتضخم عند ارساء حد التكليف وغيره من قواعد الضريبة على القيمة المضافة على القيمة الضريبية الاسمية حاليًا. على مستوى رسوم الاستهلاك، يقترح اعادتها الى قيمتها الحقيقية كما قبل الازمة، اعتماد نظام يربط الرسوم تلقائيًا بمؤشر بما في ذلك نطاق الشرائح الضريبية، واعتماد نظام يربط رسوم استهلاك المحروقات بمؤشر. اما ضرائب الدخل فيقترح الصندوق تعديلًا لها تبعا للتضخم، وتمكين الادارة من الوصول الى المعلومات المصرفية ذات الصلة والبدء بتلقي معلومات في اطار المنتدى العالمي عن الحيازات للمقيمين اللبنانيين لاستخدامها في الاغراض الضريبية، وادخال الكسب الرأسمالي المحصل من بين الاسهم في الشركات ضمن القاعدة الخاضعة للضريبة. ويقترح الغاء اعفاءات توزيع الأرباح للافراد من الشركات، وجعل الاعفاء مقتصراً على مسكن رئيسي واحد، والغاء المعاملة التفضيلية لعائدات التصدير، والغاء المعدلات المنخفضة لضريبة دخل الشركات التي تمنح عن الارباح المعاد استثمارها من دون تطبيق المفعول الرجعي.
أما الضرائب العقارية فيقترح الصندوق استخدام سعر الصرف السوقي في كل المعاملات العقارية المقوّمة بالدولار او غيره من العملات الاجنبية، والغاء الإعفاء التلقائي من الضريبة الممنوح للعقارات الشاغرة والمعاملة التفضيلية للعقار الثاني وتوسيع نطاق رسوم التسجيل لتشمل تحويلات الاسهم التي تستمد قيمتها في الاساس من العقارات مباشرة او غير مباشرة.
لا تقلّ الاجراءات على المدى القريب والمتوسط صرامة بحيث تدخل اصلاحات قاسية من شأنها وقف النزف في ايرادات الدولة، ولكنها حتمًا لن تجد طريقها نحو التنفيذ لانها تمس مكامن الفساد الاساسية التي تشكل مسارب الهدر والثروة للمنتفعين، في حين ان ارسالها من دون ان تترافق مع شبكة حماية وطنية سيترك تداعيات سلبية كبيرة على المكلفين.