لبنان

موازنات البلديات بالأرقام: هكذا كانت وهكذا صارت!

موازنات البلديات بالأرقام: هكذا كانت وهكذا صارت!

إذا كانت الموازنات التي تضعها المؤسسات وحتّى بعض الأفراد أحياناً، تشكّل إنعكاساً لطموحاتها ولخطط تطورها المستقبلية، فإنها تحوّلت بالنسبة لمعظم البلديات في لبنان، تحايلاً على مالياتها لتأمين صمودها ولو بالحدّ الأدنى، وبالتالي تأمين سداد متوجّباتها الأساسية، وخصوصاً بالنسبة لرواتب الموظّفين، وضمان شراء المحروقات ومتطلّبات آليات لمّ النفايات وتأمين النظافة العامة.

لا تكمن أهمية قراءة الأرقام بالنسبة لموازنات البلديات في فهم مالية البلديات ونضالها في وسط الأزمة فقط، وإنّما في ما تظهره أيضاً من محاولات اللبنانيين المتكرّرة لإستخراج فرصة من الأزمة. وفي علاقتهم مع بلدياتهم وجدوا هذه الفرصة بتسديد المتأخّرات والغرامات المترتّبة، بالإضافة الى إستباق إرتفاع بعض تكاليف المعاملات، خصوصاً أنه حتّى في ظلّ لحاق بعض رسوم البلديات بالتضخّم الحاصل، لم تبلغ مستوى صرف الدولار في السوق الموازية، وهذا ما أمّن للبلديات مداخيل إضافية ساندت مالياتها، من دون أن تجنّبها تداعيات إنهيار العملة الوطنية.

هذا الواقع تعكسه بشكل فاضح موازنات عام 2023 التي وضعتها البلديات لسنة ولايتها الأخيرة المفترضة بعد تمديدها لعام إضافي، بعدما تضخّمت فيها المبالغ المالية المحدّدة للنفقات بالليرة اللبنانية، من دون أن تكون قادرة على اللحاق بالسعر اليومي المتبدّل للدولار، ما جعلها موازنات وهمية، وترجمتها عملياً دونها معوقات، وأبرزها ما يتعلق بالقدرة على تأمين واردات موازية فعلياً لنفقاتها، حتى لو كانت معظم هذه النفقات قد أسقطت شقّ الإنفاق على تطوير الواقع الإنمائي للمدن والبلدات، وحدّدت مصاريفها بالحاجات التشغيلية فقط.

تركيبة الموازنات

نظرياً، تتألف موازنة كلّ البلديات مهما تبدّل حجمها من شقّين: الأول مخصّص للواردات، وتحدّد كل بلدية من خلاله مصادر الأموال المتوقّعة، سواء من خلال الجباية المباشرة للرسوم التي تسمح بها القوانين، أو من خلال الصندوق البلدي المستقلّ، فيما الشقّ الثاني هو للنفقات، والتي يجب أن توازي بقيمتها قيمة الواردات.

أما عملياً فيحدّد حجم مالية معظم البلديات الرسوم المباشرة التي تحصّلها، وأبرزها الرسوم على القيمة التأجيرية وتراخيص البناء، وغيرها من الرسوم الإستثمارية الناتجة عن الرخصة، بالإضافة الى الغرامات وتسوية المخالفات.

إلا أن العنصر الأبرز لمداخيل البلديات يتأتّى من عائدات الصندوق البلدي المستقلّ والتي تدعم موازنات البلديات، وهي مستحقّات لم تحمل أي تعديل في قيمتها، حتى بعد تدهور العملة اللبنانية، وتُسدّد كمتأخّرات عن الأعوام السابقة، ممّا يعني أنّ البلديات لن تتأثّر مباشرة، أقلّه في سنتها المالية الجارية، بالضرائب الجمركية التي يفترض أن تموّل صناديق البلديات بمبالغ إضافية.

توزّع النفقات

في المقابل، تشكّل بعض النفقات بنوداً ثابتة يستحيل إسقاطها من الحسابات المالية للبلديات. وأبرزها المخصّصات والرواتب وأجور الموظفين الدائمين والمتعاقدين مع البلدية وما يتبعها من تعويضات، نفقات المحروقات المطلوبة لتشغيل آليات لمّ النفايات ومستلزمات النظافة، نفقات الكهرباء والإنارة العامة.

ونظراً للتبدّل الكبير الذي لحق بكلفة البنود المذكورة، بات من الصعب على موازنة البلديات أن تقترب من الواقع بالنسبة لتأمين الواردات المطلوبة، ما يجعل التفاوت في الأرقام يحدّد سياسات البلديات المالية وأولوياتها، وخصوصاً في ظلّ عدم الإستقرار المالي، كما حصل مثلاً خلال إعداد موازنات البلديات لسنة 2023.

ففي بلدية قبّ الياس في البقاع الأوسط مثلاً، وُضعت ميزانيتها بحسب مصادر إدارية، على أساس سعر 40 ألف ليرة للدولار، علماً أن سعره في شهر أيلول لدى إنجاز الموازنة كان يتراوح بين 37 و38 ألف ليرة. إلا أنه قبل المباشرة بفتح سنة مالية جديدة للبلدية قفز الدولار إلى 48 ألف ليرة، ما بدّد جهود تأمين الواردات الموازية لقيمة نفقاتها المقدّرة، خصوصاً أنّ إرتفاع سعر الدولار سيوازيه إرتفاع مواز بأسعار المحروقات التي تستهلك الجزء الأكبر من ميزانية البلدية.

الحديث عن هذا الواقع يتكرّر في بلديات البقاع خصوصاً، حيث تسود الإنطباعات بأنّ معظم البلديات، الكبيرة منها والصغيرة، متروكة لتتخبّط بالأزمة التي خلّفها إنهيار العملة الوطنية، فيما لم تلمس مجالسها أي توجّه لدى الإدارة المركزية لإجتراح حلول تؤمّن الحفاظ على المؤسسات الوحيدة التي بقيت على تماس مباشر مع المواطن في مختلف الأزمات التي واجهت لبنان والعالم، بدءاً من جائحة «كورونا» وحتى الأزمة المالية المستفحلة يومياً.

حلول جانبية

وعليه، تسعى كلّ بلدية لتأمين التوازن في مالياتها من خلال حلول جانبية، لم يستثن بعضها اللجوء الى الجهات المانحة في تنفيذ بعض المشاريع الملحّة، مستفيداً من صفة المجتمع الحاضن للنازحين، فيما سلكت بلديات أخرى طريق رفع بعض الرسوم الأساسية، في خطوات بقيت فردية على رغم تكرّرها، ومرّرت بالتواطؤ مع وزارة الداخلية ولكنها لم تحظ بتغطية قانونية من قبلها.

وهذا ما حصل تحديداً بالنسبة لزيادة رسوم القيم التأجيرية. إذ تؤكّد مصادر بلدية أنّ معظم بلديات لبنان الصغرى، عدّلت هذه الرسوم، وإن بنسب تفاوتت بين بلدية وأخرى. ففي وقت عدّلتها بلدية قب الياس مثلاً بمعدّل ضعفين في سنة 2022 وتسعى لمضاعفتها مجدّداً في سنة 2023، رفع الرسم 3 أضعاف في بلدية سعدنايل، و7 اضعاف في بلدية عنجر، فيما قرّرت بلدية المرج في البقاع الغربي رفعها أربعة أضعاف في ميزانيتها الاخيرة. وعلى رغم ما وفّره هذا الإجراء من دعم لبعض ماليات البلديات، فهو لم يترك أثراً واضحاً في معظمها، خصوصاً أنّ جزءاً كبيراً من المكلّفين لا يزالون يمتنعون عن تسديد رسوم القيم التأجيرية، إلا في عنجر حيث تبلغ نسبة الجباية أكثر من 95 بالمئة.

وعليه، لجأت بلديات إلى مصادر تمويل إستثنائية لماليتها، يمكن إعتبارها بمثابة ورقة «لوتو» عُرفت قيمتها خصوصاً خلال الأزمة المالية الأخيرة، كمثل الدعم بالفريش دولار الذي يوفره مستوصف سعدنايل لبلديتها، وتحوّل سوق الإثنين الشعبي في المرج مصدراً أساسياً لواردات بلديتها، بالإضافة الى ما توفّره قلعة عنجر من مداخيل تقرّها وزارة المالية.

إلا أنّ هذا الواقع بقي غير معمّم. ولتبقى المفارقة أيضاً بالنسبة لرفع الرسوم على القيم التأجيرية، في العقبات القانونية التي تواجهها البلديات الكبرى قبل الصغرى. وهي البلديات التي تخضع ماليتها لرقابة ديوان المحاسبة والتفتيش المركزي ومحكومة بالقوانين المرعية.

العقبات القانونية

فوفقاً لأسعد زغيب رئيس بلدية زحلة، وهي ثالث أكبر مدن لبنان، لم تعدّل الرسوم على القيمة التأجيرية في المدينة منذ سنة 1986، على رغم الغلاء المعيشي الذي رفع الحدّ الادنى للأجور 3 مرات حتى الآن. ومع أنّها تسعى حالياً لوضع دراسة تسمح برفع تدريجي وتراكمي لهذه الرسوم فإنّ تطبيقه يبقى رهن موافقة وزارة الداخلية أولاً.

تُوصف بلدية زحلة عموماً بكونها من البلديات الغنيّة، ولكن هذا الوصف يمكن القول حالياً إنّه بات من الماضي. وقراءة أولية لبعض أرقام واردات ونفقات البلدية، تظهر حجم التضخّم الكبير في نفقاتها، وخصوصاً بشقّي تأمين النظافة وإدارة المطمر الصحّي، ما يضع بلديتها في قلق مستمرّ على تأمين الواردات الموازية.

حدّدت بلدية زحلة حجم موازنتها لسنة 2023 بنحو 84 مليار ليرة. أي بزيادة نحو 40 ملياراً عن موازنة 2019، سنة تظهّر الأزمة اللبنانية، ونحو 18 ملياراً عن العام 2022. وهذا ما يقودنا الى مقارنة بين بعض نفقات وواردات السنتين المذكورتين.

بإنتظار إستكمال بلدية زحلة لعملية جمع مجمل نفقاتها عن سنة 2022، تظهر مقارنة لمجموع وارداتها بأنّها بلغت نحو 17 ملياراً و400 ألف ليرة في سنة 2019، بمقابل نحو 43 ملياراً و300 ألف ليرة في العام 2022.

وفي قراءة تفصيلية لبعض الأرقام يظهر تضاعف رسوم القيم التأجيرية المسدّدة عن الوحدات غير السكنية، إلى إرتفاع كبير في رسوم تراخيص البناء التي زادت وارداتها من نحو 300 مليون ليرة الى نحو مليار ومئة ألف ليرة. كما إرتفعت الواردات من رسوم وغرامات تسوية المخالفات من نحو 26 مليون ليرة الى أكثر من مليار و600 مليون ليرة، وعلاوة قيمة الطاقة الكهربائية المستهلكة، من نحو 3 مليارات ومئة مليون ليرة الى أكثر من 11 ملياراً و500 مليون ليرة، لتبرز أيضاً أرقام الهبات والمساعدات والوصايا التي إرتفعت من صفر الى نحو 11 ملياراً و700 مليون ليرة.

مفعول محدود

وإذا كان تبرير بعض هذه الزيادات في الواردات يكمن في تهافت المكلفين على إنجاز المعاملات وتسديد الغرامات قبل أن تتأثّر بإرتفاع سعر الدولار، إلا أنّ مفعولها بقي محدوداً عند التمعّن بالتضخّم الذي طرأ على بعض النفقات أيضاً، والتي تأثّرت بسعر الدولار الأسود، وخصوصاً بالنسبة لتكاليف المطمر الصحّي الحديث التي إرتفعت من نحو 144 مليون ليرة في سنة 2019 الى أكثر من 11 ملياراً و512 مليون ليرة في سنة 2022. علماً أنّ نفقات سنة 2022 لم تلحظ الزيادات على رواتب الموظفين والأجراء والمتعاقدين إلا في الجزء الأخير منها وهو ما ينتظر أن يتوضّح أثره في نفقات سنة 2023، والتي ستبرز أيضاً حجم نفقات المحروقات المطلوبة للآليات وكلفة صيانتها، ونفقات الإنارة العامة التي باتت تحتسب بالدولار، وهي كلّها تكاليف مشتركة بين معظم البلديات.

لا شك أنّ معظم البلديات لجأت الى قراءة أرقام وارداتها ونفقاتها بتمعّن، حفاظاً على توازن مالياتها. وهو ما يؤكده رئيس بلدية عنجر فارتكس خوشيان، مشدّداً على أنّ الأساس في الحفاظ على توازن البلديات وصمودها حالياً هو بدوزنة النفقات بما يتناسب مع الواردات، تطبيقاً للمثل الشعبي القائل «على قدّ بساطك مدّ رجليك». فيما ترى مصادر بلدية أنّ الدولة اللبنانية باتت ملزمة على تعديل بعض الرسوم خصوصاً أنّ القانون الذي يسمح للبلديات بإستيفاء الرسوم غير معدّل منذ سنة 1926، مع التشديد على وحدة المعيار في تطبيقها حتى لا تتسلّل الفوضى الى هذه المؤسسات المعنية مباشرة بيوميات المواطنين.


لوسي بارسخيان - نداء الوطن

يقرأون الآن