ترأس متروبوليت بيروت وتوابعها للروم الأرثوذكس المطران الياس عوده، خدمة القداس في كاتدرائية القديس جاورجيوس.
بعد قراءة الإنجيل ألقى عظة قال فيها: "بداية لا بد لنا من رفع الصلاة من أجل جميع الضحايا الذين سقطوا جراء الزلزال المدمر الذي ضرب قلب أنطاكيتنا الحبيبة، ومن أجل جميع المشردين والمفقودين من إخوتنا، سائلين الله أن يبلسم جراح الجميع ويغدق عليهم رحمته الغنية العظمى، ويرحم نفوس المنتقلين ويعزي ذويهم. في الأوقات الصعبة يهب الجميع لمساعدة إخوتهم في الإنسانية، لذا نسألكم جميعا أن تمدوا يد العون، كل بحسب قدرته، إلى المصابين والمشردين. أما نحن فسوف نخصص، مع تقدماتكم لهذا الأحد من أجل مساعدة إخوتكم، ما يمكن كنائس أنطاكية من تضميد جراح أبنائها".
أضاف: "رأينا اليوم في مثل الإبن الشاطر ثلاثة مواقف: موقف الإبن الأصغر تجاه أبيه، وموقف الأب تجاه ابنه الأصغر، وأخيرا موقف الإبن الأكبر تجاه أبيه وأخيه. مثل الإبن الشاطر لا يحدثنا عن التوبة فقط، بل يحدد لنا شكل العلاقة بين الله والإنسان، وكيفية تجاوب الإنسان مع هذه العلاقة الأبوية. فالإنسان غالبا ما يتصرف مع الله الآب خالقه بجحود، فيطلب ولا يكتفي، وينسى أن العاطي هو الرب، فيأخذ ما يعطى له ويرتحل بعيدا، غارقا في دوامة هذا العمر وشروره وجشعه وملذاته، تماما كما فعل الإبن الشاطر. مع هذا، ينتظر الآب عودة أبنائه الذين خلقهم على صورته ومثاله. لا يتدخل من أجل إرجاعهم، ليس لأنه حقود وهو كما يقول النبي داود: «رحيم ورؤوف، طويل الأناة وكثير الرحمة، لا يحاكم إلى الأبد، ولا يحقد إلى الدهر» (مز 103: 8-9)، بل لأنه خلقنا أحرارا، وتدخله يعيق حريتنا الشخصية. لكننا، عندما نعود إلى ذواتنا، ونقرر العودة إليه، نجده في انتظارنا، لا بل يهرع نحونا فاتحا يديه كما فعل الأب في مثل اليوم. هذه هي التوبة النابعة من حرية شخصية، والمكملة برأفة الآب ومحبته. يقول القديس بورفيريوس الرائي: «لا تحارب في سبيل طرد الظلمة من غرفة نفسك، بل افتح نافذة صغيرة تسمح للنور بالدخول، ووحدها الظلمة ستختفي». قرار عودتنا الحر هو تلك النافذة الصغرى التي علينا فتحها، فيدخل الرب لينير حياتنا طاردا ظلمة الخطيئة".
وتابع: "يخطئ الكثيرون عندما يقولون إن الله يفتعل المصائب والكوارث ليعيد الناس إلى التوبة. إنهم بذلك ينزعون عن الله صفة الرحمة، ويجعلون منه كائنا بشريا ينتقم من الذين لا يبجلونه، كما يفعل أباطرة هذا العالم. الله «يريد أن جميع الناس يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون» (1تي 2: 4)، فكيف يجرؤ أحد أن ينسب ما يحدث في العالم لهذا الإله المحب والشفوق؟ الله، لكثرة محبته للبشر، غرس فينا صوته، وهو ما نسميه «الضمير». البشر يسكتون هذا الضمير بأعمالهم الخاطئة، ولكثرة إسكاتهم إياه تصم آذان نفوسهم عن سماعه، إلا أن هذا الصوت الإلهي لا يموت، بل حالما تواجه الإنسان مشكلة لا يقدر على حلها، أو عندما يواجه حقيقة عظمى كالمرض أو الموت الفجائي، يفرغ ذهنه من جميع الأفكار ما عدا فكرة النجاة والمحافظة على حياته، فيعود صوت ضميره ليصدح مذكرا إياه بأن لا حياة له خارج البيت الأبوي. نقرأ في الرسالة إلى العبرانيين: «لذلك كما يقول الروح القدس اليوم، إن سمعتم صوته، فلا تقسوا قلوبكم» (عب 3: 7-8). عندها يدخل الإنسان في صراع مع نفسه، وليس مع الله. نفسه تشتاق للعودة إلى الأحضان الأبوية، فيما تعود به ذاكرته إلى ما فعله في حياته من شرور، الأمر الذي عانى منه الإبن الشاطر عندما خسر كل شيء، ورأى أنه كان مكرما في بيت أبيه على عكس حالته الآن. خسارة الإبن لم تكن بسبب أبيه. فالأب أغدق على ابنه بنصف ثروته، تلبية لطلبه. الخسارة حصلت بسبب جهل الإبن لكيفية تثمير الثروة الممنوحة له. لم يلم أباه مثلما يفعل معظم مؤمني هذا العصر، كلما حلت كارثة بقولهم: «هذه مشيئة الله». المشيئة الإلهية هي خلاص البشر، لا إزهاق أرواحهم، فيما كل المشاكل الحاصلة في هذا العالم هي من نتائج جهل البشر كيفية استخدام النعم الإلهية، فيظنون أنهم أصبحوا أسياد الأرض، ويعيثون الخراب في وسطها، بينما نسمع داود النبي يقول: «الله في وسطها فلن تتزعزع» (مز 46: 5)".
وقال: "إن الرب لا يرسل المصائب، إلا أن حدوثها يجعلنا نتذكر وجوده، وهذا أمر مؤسف إذ أصبح الإنسان ينتظر وقوع الكوارث لكي يعي بعده عن الرب ويسعى للعودة إليه، هذا إن لم ينس مرارة تلك الكوارث ويعد إلى سابق شروره. مثل الإبن الشاطر يذكرنا بأن الله ينتظر عودتنا، وبأننا ندخل المشاكل إلى حياتنا عندما نبتعد نحو الخليقة بدلا من الخالق. والعودة ليست مستحيلة، ويجب ألا يقف الخجل عائقا أمامها. ومثلما تخطى كل من زكا والكنعانية كل العوائق، هكذا على الإنسان تخطي خجله من خطيئته، والرجوع بنفس منسحقة بالتواضع الناشئ من تأديبه لذاته أولا، وسيجد الباب مفتوحا، فيدخل ويفرح ذاك الفرح القيامي، لأنه كان ميتا بالخطيئة، فعاد حيا بنعمة الله الممنوحة لأبنائه الذين يعرفون كيف يستخدمون حريتهم، لا خوفهم من المصائب، في سبيل العودة إلى البيت الأبوي. التوبة أجمل وأنقى تقدمة يستطيع الإنسان تقديمها إلى الله. بها نسدد المتوجب علينا عن جميع الأعمال التي صنعها السيد من أجلنا. موقف الإبن الأكبر في المثل، يذكرنا بموقف كل إنسان لا يفرح بتوبة أخيه الإنسان، بل يقف مذكرا إياه بخطايا إنسانه القديم. كثيرون ظهروا مؤخرا على وسائل التواصل الاجتماعي يدينون إخوتهم في الإنسانية، شامتين بهم وبمصابهم الأليم نتيجة زلزال مدمر، مدعين أن ما حدث هو نتيجة أعمال شريرة انتقم الله منهم بسببها. هؤلاء يمثلون شريحة من الذين يتوبون توبة مؤقتة ناتجة عن الخوف من الموت، خصوصا أنهم مروا بآلام مشابهة عقب تفجير هو من الأكبر عالميا. هل نسي أولئك ما حدث؟ أو هل ما حصل في بلدهم كان نتيجة لخطاياهم فعاقبهم الله عليها؟ وحالما شعروا أنهم في مأمن عادوا إلى إنسانهم العتيق الديان، واضعين أنفسهم مكان الله العادل والمحب للبشر؟ ربما ما حدث مؤخرا من كارثة طبيعية حث كثيرين على التوبة، التي نصلي ألا تكون موقتة، فهل نقف كالإبن الأكبر غير فرحين بذلك؟"
أضاف: "كل شيء حولنا يدعونا إلى التوبة، ومع ذلك فإن مسؤولينا لا يجدون إلى التوبة سبيلا. إن الزلزال المدمر الذي أصاب تركيا وسوريا ولم يسلم من تردداته لبنان دمر مناطق كثيرة وخلف آلاف الضحايا والجرحى والمفقودين والمشردين. ألا تدعو هذه الكارثة جميع المسؤولين إلى التأمل بما كان سيحل بلبنان وأبنائه لو طالت لبنان؟ لقد نجا لبنان بأعجوبة بسبب رحمة الله التي أبعدت عنا هذه الكأس، وقد أرغمنا على تجرع كؤوس مرة كثيرة ولم نعد نحتمل. إن ما حصل يشكل إنذارا يدعو الجميع إلى إدراك صغر الإنسان وعجزه أمام غضب الطبيعة وسطوتها، وإلى التفكير بكيفية التصدي لمثل هذه الكوارث ووضع الخطط اللازمة من أجل مقاومة الزلازل والعواصف والسيول، وتخفيف ضررها. للأسف لم يتغير شيء في مواقف السياسيين والزعماء وقادة هذا البلد، ولم يفيقوا من سباتهم أو يشعروا بالرعب الذي يعيشه اللبنانيون، وبخاصة ساكنو الأبنية القديمة المتصدعة وما أكثرها في لبنان، ولم يهبوا إلى نجدة شعبهم القلق على مصيره من غضب الطبيعة ومن سوء إدارة حكامهم. ألا يتوجب عليهم إعادة النظر في سلوكياتهم ومواقفهم والعمل على بناء دولة قادرة على احتضان شعبها وحمايته؟ وبناء الدولة يبدأ بانتخاب رئيس وتشكيل حكومة تعمل جاهدة على تسيير إدارات الدولة بناء على خطة إصلاحية إنقاذية شاملة. وإن كانوا عاجزين عن ذلك فليفسحوا المجال لمن يستطيع ذلك".
وختم: "دعوتنا اليوم ألا نميز ذواتنا، ظانين أن الآخرين هم كالإبن الشاطر. إن كلا منا هو شاطر، إلى حين مجيء تلك اللحظة المباركة التي يرجع فيها إلى ذاته متذكرا جمال حياته قرب أبيه السماوي".