في تطور وُصف بـ"التاريخي"، شهدت العاصمة الفرنسية باريس اجتماعًا ثلاثيًا جمع وزير الخارجية السوري أسعد الشباني، ووزير الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلي رون ديرمر، برعاية المبعوث الأميركي الخاص إلى سوريا توم باراك.
اللقاء، الذي استمر 4 ساعات، هو الأول من نوعه منذ أكثر من 25 عامًا بين الجانبين السوري والإسرائيلي، ويأتي في توقيت بالغ الحساسية، أعقب سلسلة من الضربات الإسرائيلية التي طالت مواقع أمنية وعسكرية داخل دمشق ومحيطها.
بحسب ما كشفه المدير العام لمجموعة الإعلام المستقلة، علي جمالو، في حديثه لبرنامج "ستوديو وان مع فضيلة" على سكاي نيوز عربية، فإن الإعلان عن اللقاء لم يصدر من أي جهة رسمية سورية، لا بالنفي ولا بالتأكيد، بل جاء من خلال تغريدة نشرها المبعوث الأميركي توم باراك، أثارت موجة من التغطيات الإعلامية.
التغريدة أشارت إلى لقاء تم مساء الخميس بين الطرفين السوري والإسرائيلي برعاية أميركية، وفتحت باب التكهنات واسعًا حول طبيعة التفاهمات التي جرى نقاشها.
ورغم أن البيان الأميركي لم يشر إلى نتائج ملموسة، فإن تأكيد جميع الأطراف على "مواصلة الحوار وتهدئة الأوضاع" اعتبر، بحسب جمالو، إشارة إلى نية مبدئية للانخراط في مسار تفاوضي، ولو بحدوده الدنيا.
وأوضح جمالو أن الأزمات العالقة بين سوريا وإسرائيل لا يمكن تجاوزها في لقاء واحد، مشيرًا إلى أن "الملفات المتشابكة معقدة للغاية"، بدءًا من تمدد القوات الإسرائيلية خارج خط وقف إطلاق النار لعام 1974، مرورًا بالضربات الأخيرة على مواقع عسكرية وأمنية في السويداء ودمشق، وصولًا إلى استهداف مباشر لمبنى وزارة الدفاع ومحيط القصر الرئاسي قبل أيام فقط من اللقاء.
وأضاف أن الولايات المتحدة تسعى منذ أشهر إلى "تبريد هذا الملف" عبر إطلاق ديناميكيات تفاوضية، مشيرًا إلى أن واشنطن تمارس ضغوطًا سياسية على الطرفين لخفض التصعيد. وهو ما أكدته تغريدة باراك، التي شددت على استمرار الجهود وعدم إغلاق باب الحوار.
ولفهم دلالة هذا اللقاء، وضع جمالو الحدث في سياقه الزمني. فآخر لقاء رسمي رفيع مماثل جرى في مطلع العام 2000، في مدينة شيبردستاون بولاية فرجينيا الأميركية، وجمع حينها وزير الخارجية السوري فاروق الشرع ورئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك إيهود باراك، برعاية أميركية. وقد حضر جمالو ذلك الاجتماع كعضو في الوفد الإعلامي المرافق، مشيرًا إلى أن المفاوضات حينها انهارت نتيجة تعقيدات داخلية وإقليمية.
وعلى هامش زيارة الرئيس السوري الحالي أحمد الشرع إلى باكو قبل نحو أسبوعين، بدأت اجتماعات تقنية غير معلنة بين شخصيات دبلوماسية وخبراء من الجانبين، يبدو أنها مهدت للقاء باريس، رغم أن الظروف على الأرض كانت تسير باتجاه تصعيد ميداني، لا تهدئة سياسية، خصوصًا بعد الأحداث الدامية في السويداء.
بحسب جمالو، فإن اللقاء لم يحمل عنوانًا سوى "الابتزاز السياسي"، على حد وصفه، معتبرًا أن إسرائيل تستثمر حالة الضعف العسكري والسياسي السوري لفرض شروط تفاوضية تصب في مصلحتها. وأضاف: "إسرائيل تريد أن تبتز الإدارة السورية التي لا تمتلك حاليًا القدرة العسكرية للرد، وهذه حقائق لا تحتاج إلى تجميل. أي محاولة للمواجهة تعني انتحارًا سياسيًا وعسكريًا."
بهذا المعنى، يضع جمالو هذا اللقاء في خانة إدارة الصراع وليس حله، مشيرًا إلى أن غياب التكافؤ في موازين القوى، والانقسام السوري الداخلي، والتوترات الإقليمية، تجعل من الحديث عن "تطبيع محتمل" أمرًا بعيد المنال.
لا يمكن فصل هذا اللقاء عن السياسة الأميركية الجديدة تجاه الملف السوري. فإدارة الرئيس دونالد ترامب – في ولايته الثانية – تعمل على إعادة هندسة المشهد الإقليمي، وتعتبر الجبهة السورية أحد المفاتيح المهمة لضمان استقرار الحدود الشمالية لإسرائيل من جهة، والحد من النفوذ الإيراني من جهة أخرى.
ووفق ما صرّح به باراك، فإن الهدف الأول للقاء هو الحوار وتهدئة الوضع، فيما لمّح إلى احتمال عقد جولة ثانية من اللقاءات، مما يشير إلى رغبة واشنطن في استثمار هذا التواصل لتأسيس قناة تفاوضية مستمرة.
ورغم الطابع الرسمي للاجتماع، يعتقد محللون أن طبيعة الملفات المطروحة، مثل خفض التصعيد وضبط قواعد الاشتباك على الحدود، تحمل صبغة أمنية أكثر منها سياسية. وهو ما يدعم فرضية أن اللقاء كان أشبه بـ"غرفة تنسيق أمنية مؤقتة"، هدفت إلى منع انزلاق الأمور إلى مواجهة عسكرية مفتوحة.
السؤال الأكبر الذي يطرح نفسه بعد هذا اللقاء هو: هل نحن أمام مسار سلام جديد، أم مجرد "هدنة دبلوماسية" سرعان ما تنتهي؟
المؤشرات الحالية لا تسمح بالكثير من التفاؤل. فالدولة السورية لا تزال غارقة في أزماتها الداخلية، وتواجه تحديات متعددة، من الجنوب إلى الشمال. وإسرائيل، من جهتها، تستثمر الوقت لمواصلة استراتيجيتها بضرب النفوذ الإيراني داخل العمق السوري، سواء في الجنوب أو في محيط دمشق.
أما الولايات المتحدة، فهي تسعى إلى ضبط الإيقاع، وتفكيك العقد الإقليمية الواحدة تلو الأخرى، بدءًا من غزة، ومرورًا بلبنان، وليس انتهاءً بسوريا.
لقاء باريس ليس مجرد حدث بروتوكولي، بل مؤشر على تحول تكتيكي في التعاطي مع الملف السوري-الإسرائيلي، تقوده واشنطن وتسعى من خلاله إلى خلق مساحات تفاهم، ولو مؤقتة، بين خصمين تاريخيين. لكن كما يشير علي جمالو، فإن "الواقع على الأرض أكثر تعقيدًا من التغريدات الدبلوماسية"، وما يبدو كخطوة نحو التهدئة قد لا يكون سوى محطة جديدة في مسار طويل من الابتزاز السياسي والضغوط الإقليمية المتقاطعة.