لم يعد حاكم مصرف لبنان رياض سلامة متردداً (نظرياً على الأقل) بشأن منح تراخيص مصرفية جديدة. فهو العالم قبل غيره أن القطاع المصرفي القائم، والموصوف من خبراء صندوق النقد الدولي بأنه "مفلس" و"زومبي"، لم يعد يلبي أبسط الأعمال المصرفية البديهية مثل استقبال الودائع (بأمانة) ومنح القروض (بحصافة). علماً بأن القطاع سيبقى على هذه الحال السيئة لفترة قد تطول نسبياً، في موازاة المماطلة في تنفيذ شروط صندوق النقد.
وفي المعلومات الأولية، أن سلامة أقر بمبدأ منح 3 رخص جديدة ، لكنه يتمهل في اتخاذ القرار النهائي لأسباب كثيرة أبرزها متعلق بمدة بقائه في الحاكمية من جهة، ومن هي الجهات التي يجب، برأيه، أن تلبي شروط الترخيص من جهة أخرى، فضلاً عن كيفية استقبال الرأي العام هذا الخبر السعيد جداً لأطراف، وغير السعيد بتاتاً لأخرى.
المصارف ستحارب
فليس سراً أن جمعية المصارف لا تقبل بسهولة دخول لاعبين جددٍ حالياً. وتفضل إرجاء الخطوة الى ما بعد الاتفاق على مشروع إعادة هيكلة البنوك، والكابيتال كونترول، ومشروع الانتظام المالي الذي يوزع الخسائر و/أو يرد الودائع!.. وكل ذلك بشروط جمعية المصارف بطبيعة حال موازين القوى حالياً، وإلا فالحرب الشعواء مستمرة بإضرابات تعطل مصالح الناس، وتهويلات بالويل والثبور وعظائم الأمور، و"تزبيطات" مع نافذين لتعطيل سير قضايا مرفوعة من مودعين ومتضررين بقوة من المصارف.
حارس الهيكل
كما أن المتابع الدؤوب لمجريات الأحداث، والعارف نسبياً ببواطن العراقيل ودوافعها ومن أين تأتي، سيكتشف أن اعلان نية سلامة منح تراخيص جديدة لا يكفي لإبراء ذمته في هذا الملف الشائك والمثير للجدل. فحاكم مصرف لبنان يتمهل إلى أقصى حد يستطيعه في تغيير المشهد المصرفي الذي أحكم صياغته من ألفه إلى يائه، و"حياكته من بابوجه الى طربوشه" في مدى 30 سنة. كيف لا، وهو المتمسك الآن ودائماً بأهداب نظرية عدم افلاس أي بنك حتى لو أتى ذلك على حساب المال العام والمودعين، وهو المطبّق الأول لخطة الظل القائمة على "ليلرة" الودائع الدولارية، لإطفاء خسائر المصارف وخسائره بأبخس الأثمان، والمحافظ العنيد على معظم المصارف القائمة بمنحها مُهلاً طويلة نسبياً لترتيب أوضاعها بالتي هي أحسن كي لا يموت الذئب بغض النظر عن حياة الغنم. وهو لذلك أصدر تعميماً يسمح بزيادة الرساميل على مراحل، وباستخدام أدوات وهندسات، وتسهيلات (غريبة) مثل اعادة تقييم موجودات عقارية. وذلك بانتظار إقرارمشروع قانون اعادة هيكلة المصارف المحول الى المجلس النيابي. وفي المشروع المذكور امكان اعادة الرسملة في مدى 3 سنوات اعتباراً من تاريخ اقرار القانون. وقد يستغرق الأمر في احقيقة 3 الى 5 سنوات بالحد الأدنى للتقديرات الزمنية الخاصة بورشة من هذا الحجم.
إطار مشوّه
وفي النقاشات ذات الصلة مع سلامة، تصر جهات دولية (معنية) على أن التراخيص الجديدة لا بد من اطلاقها قريباً لأسباب عديدة أبرزها ان مجرد الإعلان عن منح التراخيص سيدفع بمصارف كثيرة الى تعجيل اعادة ترتيب اوضاعها وزيادة رساميلها كي تبقى في السوق ولا تخسر حصة منه يأخذها اللاعبون الجدد. بيد أن هذا المنطق لا يستوي كلياً انطلاقاً من سؤال عن مدى تسريع تعديل جملة قوانين احتملت تأويلات هي بين اسباب الأزمة مثل قانون النقد والتسليف، وهل سيستمر العمل بفرض احتياطي الزامي بالعملات الأجنبية؟ وماذا عن فصل لجنة الرقابة على المصارف عن "سلطة" حاكم مصرف لبنان، وضرورة تحويل اللجنة الى سلطة مستقلة. الى ذلك، تضاف ضرورة فصل الحاكم عن مناصب مثل رئاسة هيئة الاسواق المالية وهيئة التحقيق الخاصة والهيئة المصرفية العليا. فذلك الاحتكار المشبوه للمناصب أدى الى ما أدى أليه من طغيان للحاكم بأمر المال "الحلال" غير الزلال!
من الشباك إلى الباب
على صعيد آخر، يمكن نجاح خطوة منح تراخيص جديدة اذا منحت لمصارف أجنبية، أما حصرها بأصحاب رساميل محلية فقد يعيد فتح الباب لمصرفيين خرجوا من الشباك، وهم في عداد المسؤولين عن الازمة وهرّبوا اموالهم الى الخارج، وها هم سيعودون على حصان أبيض للاستحواذ على تراخيص باسماء جديدة كأن شيئاً لم يكن.
ضرورة… نعم
واذا كان لا بد من ذكر اسباب اضافية لضرورة فتح باب التراخيص، فيمكن الاشارة الى انه بعد الاتفاق النهائي مع صندوق النقد وبدء ضخ اقساط التمويل المزمع منه (3 مليارات دولار) الى جانب مليارات أخرى ستأتي من مقرضين ومانحين دوليين، فإن تلك الجهات الممولة تفضل وجود مصارف نظيفة موثوقة، ولا تحبذ التعامل مع البنوك القائمة والتي لم تنجز تنظيف ميزاتها بعد ولم تترسمل من جديد.
ساسة بالمرصاد
بيد أن ثمة من يسأل عما اذا كان سلامة سيمنح التراخيص قبل خروجه من الحاكمية أم ستبقى حبيسة أدراجه ليتولاها من يأتي من بعده؟ السؤال ليس بسيطاً إذا علمنا أن في الأمر مصالح كبيرة، مثل أن أفراداً متمولين تابعين لجهات سياسية مثل "الثنائي الشيعي" وتحديداً رئيس مجلس النواب نبيه بري، والتيار الوطني الحر وتحديداً رئيس التيار النائب جبران باسيل وغيرهم... قد يكونون طامحين للحصول على رخص مثل هذه. والسؤال الآخر هو: هل سيحظى مثل هؤلاء بالتراخيص رغم دفاتر الشروط التي "ستكتب" تحت مجهر جهات دولية مثل صندوق النقد؟ أم انها ستمر نظيفة بالشكل ومضروبة سياسياً في المضمون كما معظم توزيعات المصالح على خارطة التحاصص اللبناني التاريخي والذي، لم يتغير منه حرف أو يتبدل قيد أنملة بعد رغم زلزال الأزمة؟
تبقى الاشارة أخيراً الى ان هناك حتماً من سيربط منح التراخيص بترتيب خروج سلامة الآمن من الحاكمية. إلا ان المسألة ليست بهذه البساطة بعد فتح تحقيقات أوروبية مع سلامة وشقيقه وآخرين باتهامات خطيرة ، إلا إذا كان الادعاء عليه محلياً سيحول دون وصول التحقيقات الاوروبية الى خواتيمها… وهنا يكمن بيت قصيد خطير آخر!
صحيفة نداء الوطن