تعتمد الإدارة الأميركية نهجاً متشدداً تجاه خصومها الدوليين، موظفةً الرسوم الجمركية كسلاح اقتصادي للضغط السياسي. ويأتي ذلك في وقت تتشابك فيه المصالح بين القوى الكبرى وتتصاعد الأزمات الدولية، ما يجعل كل خطوة جديدة محل جدل واسع.
تزايدت الضغوط مع استمرار الحرب في أوكرانيا، حيث تبحث واشنطن وحلفاؤها عن أدوات إضافية لتقويض مصادر التمويل الروسية. ومع ذلك، تثير المقترحات الأميركية بشأن الرسوم الجمركية تساؤلات حول مدى استعداد الشركاء الأوروبيين للانخراط في مسارات قد ترتد على اقتصاداتهم.
وتتصاعد المخاوف أيضاً من أن تؤدي هذه التوجهات إلى إعادة خلط أوراق التجارة العالمية، خصوصاً مع الصين والهند، في ظل ترابط اقتصادي عميق ومصالح مشتركة يصعب التضحية بها.
في هذا السياق، ذكر تقرير لصحيفة "فايننشال تايمز" أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب، طلب من الاتحاد الأوروبي فرض رسوم جمركية تصل إلى 100 بالمئة على الهند والصين؛ كجزء من جهد مشترك لزيادة الضغط على روسيا لإنهاء الحرب في أوكرانيا، بحسب ثلاثة مسؤولين مطلعين على الأمر.
جاء هذا الطلب الاستثنائي من جانب الرئيس الأميركي بعد اتصال هاتفي أجراه الثلاثاء مع مسؤولين كبار من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في واشنطن لمناقشة سبل زيادة التكلفة الاقتصادية للحرب على روسيا .
قال مسؤول أميركي "نحن مستعدون للذهاب، مستعدون للذهاب الآن، ولكننا لن نفعل ذلك إلا إذا تعاون شركاؤنا الأوروبيون معنا".
مسؤول أميركي ثان قال إن واشنطن مستعدة "لمحاكاة" أي رسوم جمركية يفرضها الاتحاد الأوروبي على الصين والهند، مما قد يؤدي إلى زيادة أخرى في الرسوم الأميركية على الواردات من كلا البلدين.
يأتي اقتراح ترامب وسط إحباط داخل البيت الأبيض إزاء صعوبة التوسط في اتفاق سلام والهجمات الجوية المتزايدة التي تشنها روسيا على أوكرانيا.
قال المسؤول الأميركي الأول: "حضر الرئيس هذا الصباح، ووجهة نظره هي أن النهج الواضح هنا هو: دعونا جميعًا نفرض تعريفات جمركية هائلة ونبقيها حتى يوافق الصينيون على وقف شراء النفط. في الواقع، لا توجد أماكن أخرى كثيرة يمكن أن يتجه إليها النفط".
وذكر ترامب، الثلاثاء، للصحفيين إنه يتوقع إجراء مكالمة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين "هذا الأسبوع أو أوائل الأسبوع المقبل".
تأتي هذه الخطوة التي اتخذها ترامب بعد أن نجح بوتين والرئيس الصيني شي جين بينغ ورئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي في تعزيز علاقاتهم خلال قمة الأسبوع الماضي.
وفي الشهر الماضي، زادت الولايات المتحدة الرسوم الجمركية على الواردات الهندية إلى 50 بالمئة بسبب مشتريات البلاد من النفط الروسي، مما أدى إلى تصاعد التوترات مع الدولة الواقعة في جنوب آسيا.
خيار مستبعد
يقول رئيس قسم الأسواق العالمية في شركة Cedra Markets جو يرق لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" إن الاتحاد الأوروبي لن يتجه إلى فرض رسوم جمركية على الصين أو الهند استجابة لدعوة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، موضحاً أن أوروبا نفسها كانت قد اعترضت على هذه السياسات عندما فُرضت عليها سابقاً.
ويشير إلى أن العلاقة بين روسيا والهند تتركز بشكل أساسي على تجارة النفط، بينما العلاقة مع الصين تمثل تحالفاً استراتيجياً يتجاوز الجانب الاقتصادي.. ومن هذا المنطلق، فإن أي ضغوط محتملة ستكون موجهة أكثر نحو الصين، غير أن تطبيق مثل هذه السياسات يبدو مستبعداً في المرحلة الحالية، في تقديره.
ويضيف يرق أن أوروبا، بعد الرسوم التجارية التي فرضتها إدارة ترامب، فتحت قنوات تعاون أوسع مع بكين، حيث شهدت اجتماعات بين القادة الأوروبيين والصينيين لتنشيط التجارة بين الجانبين. وقد استفادت أوروبا، وخاصة ألمانيا، من السوق الصيني لتعويض ضعف الطلب المحلي خلال العامين الماضيين، ما يجعلها غير مستعدة للتضحية بهذه الجسور الاقتصادية.
كما يؤكد أن السوق الهندية تمثل بدوره فرصة واعدة لأوروبا مع تبادل تجاري متنامٍ، مشيراً إلى أن أي مواجهة تجارية جديدة مع الصين أو الهند ستؤدي إلى زيادة التضخم، ورفع المخاطر المرتبطة بالركود الاقتصادي الأوروبي، وهو ما تسعى أوروبا إلى تجنبه.
ويختتم حديثه بالتأكيد على أن فرض مثل هذه الرسوم لن يترك تأثيراً كبيراً على الاقتصاد الروسي، لكنه سيضاعف الأعباء على أوروبا نفسها، مما يجعل هذه السياسات مستبعدة تمامًا في الوقت الراهن.
أزمة الرسوم
ووفق تقرير لصحيفة "الغارديان" فإن ضغط ترامب يأتي في لحظة محورية لسياساته المتعلقة بالرسوم الجمركية.
في مايو، قضت محكمة التجارة الأميركية بأن الرسوم الجمركية "تتجاوز أي صلاحيات ممنوحة للرئيس". وأيدت محكمة استئناف فيدرالية هذا الحكم في نهاية أغسطس، وتتجه القضية الآن إلى المحكمة العليا.
ومن المقرر أن تستمع المحكمة العليا إلى القضية في الأسبوع الأول من نوفمبر، وستظل الرسوم الجمركية سارية حتى صدور حكمها. لكن مستقبل رسوم ترامب الجمركية غير المؤكد "قد عقّد مفاوضات الإدارة مع الدول التجارية، ويهدد بدفع الولايات المتحدة فاتورة ضخمة في حال أصدرت المحكمة حكمًا ضدها"، وفق الصحيفة.
وقال وزير الخزانة الأميركي سكوت بيسنت الأحد إنه "واثق" من أن الإدارة ستفوز بقضيتها في المحكمة العليا، على الرغم من انقسام الخبراء القانونيين وقيام المحاكم الأدنى باستمرار بالحكم ضدهم.
وصرح بيسنت بأنه سيتعين على الولايات المتحدة ردّ رسوم جمركية بقيمة عشرات المليارات من الدولارات إذا قضت المحكمة بعدم قانونيتها. وقال بيسنت في مقابلة على قناة إن بي سي: "سيتعين علينا ردّ نصف الرسوم الجمركية تقريبًا، وهو ما سيكون له أثرٌ بالغٌ على الخزانة".
ترابط اقتصادي
من جانبه، يقول الأستاذ في كلية موسكو العليا، الدكتور رامي القليوبي، لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية": "لا أعتقد بأن الاتحاد الأوروبي سيحذو حذو الولايات المتحدة الأميركية في هذه الرسوم، ذلك أن الاتحاد الأوروبي حرم نفسه بالفعل من النفط والمنتجات النفطية الروسية، وهو اليوم يعوض هذا النقص عبر شراء منتجات المصافي الهندية، علماً أن هذه المنتجات في الأساس مصنوعة من النفط الروسي".
ويضيف: "بالنسبة للصين، فإن هناك ترابطاً اقتصادياً كبيراً بينها وبين أوروبا، ولا أعتقد بأن الصين والاتحاد الأوروبي يمكن أن يضحّيا بهذه الشراكة من أجل إرضاء واشنطن."
من جانبه، يشير خبير الشؤون الأوروبية، محمد رجائي بركات، لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" إلى أنه "ليس من مصلحة الاتحاد الأوروبي تلبية دعوة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وفرض رسوم جمركية بنسبة 100 بالمئة على الصين والهند ودول أخرى، في إطار الضغط على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين".
ويوضح أن "المصلحة الحقيقية لدول الاتحاد الأوروبي تكمن في استمرار العلاقات التجارية والمبادلات الاقتصادية مع الصين والهند، نظراً لأهميتها الكبيرة والفوائد التي تجنيها الدول الأوروبية من هذه العلاقات".
كما يشدد على أن "دول الاتحاد الأوروبي تعتمد على استيراد العديد من المنتجات من الصين بأسعار تنافسية، إضافة إلى احتياجات أساسية من الصناعات الهندية، مثل الملابس والأقمشة والحديد والصلب، فضلاً عن بعض المنتجات التكنولوجية المهمة".
ويضيف بركات: "من الصعب على الاتحاد الأوروبي استبدال هذه الصناعات بمصادر أخرى، ما يجعل من مصلحته الحفاظ على هذه الشراكات التجارية، بدلاً من الانجرار وراء سياسات الرئيس الأميركي ترامب، الذي يُعرف بتصريحاته المتقلبة ومواقفه غير المستقرة".
ويختتم حديثه قائلاً: " "رغم بعض التوترات القائمة في العلاقات بين الاتحاد الأوروبي والصين، خصوصاً فيما يتعلق بصناعة السيارات والمنافسة مع الشركات الصينية، إلا أن المصلحة الأوروبية تظل مرتبطة باستمرار هذه العلاقات مع كل من الصين والهند".