لبنان

بداية نهاية "عالم المخدرات" في لبنان؟!

بداية نهاية

يسود الوسط الأمني في لبنان تفاؤل واضح بإمكانية أن يكون عام 2026، عام نهاية «عالم المخدرات» الذي أنتجته الحرب الأهلية اللبنانية ومتفرعاتها من الحروب الأخرى التي أمنت لهذا العالم بيئة مثالية ازدهر فيها، وبات مادة عابرة للحدود تنطلق من لبنان وسوريا عبر الأردن ليطرق أبواب الخليج، وتحديداً المملكة العربية السعودية التي كانت هدفاً رئيسياً لتجار «السكك» ينقلون من خلالها «بضائعهم الممنوعة ويجنون من خلالها الكثير من الأموال التي باتت تمول دولاً وميليشيات.

منبع التفاؤل هو التطور الكبير الذي ضرب الحدود اللبنانية السورية مع نهاية النظام السوري السابق ورحيل «الفرقة الرابعة» عن الحدود، ومن ثم طرد التجار الذين كانوا يقيمون في «المنطقة الرمادية» داخل الحدود السورية.

ويقول مسؤول أمني لبناني لـ«الشرق الأوسط» إن بدء الحرب في سوريا كان شرارة ازدهار تجارة المخدرات، ونهاية الحرب شكلت بدورها بداية النهاية لهذه التجارة التي تلقت ضربات أمنية في كل مفاصلها، لجهة الإنتاج والتخزين والتوزيع.

وكانت المنطقة الحدودية من الجهة السورية تحولت ملاذاً آمناً لتجار المخدرات بين عامي 2023 و2024. فقد أقام هؤلاء في قرى تملكوا فيها منازل بحماية الأمن السوري وتحديداً عناصر «الفرقة الرابعة» التي كانت الشريك التجاري لهم. ومع سقوط النظام عادوا إلى لبنان ليصبحوا فريسة سهلة للجيش اللبناني الذي تولت استخباراته مطاردتهم والقبض على بعضهم وقتل آخرين.

التنمية سلاحاً

وفق التقييم الأمني اللبناني، يحتاج الأمر إلى «دفعة من التنمية» تحط رحالها في مناطق الحرمان اللبنانية في البقاع وعكار، تكون بمثابة العامل المساعد للضغط الأمني الكبير الذي تمارسه أجهزة الأمن اللبنانية على تجار المخدرات، فتقطع عنهم ذريعة الحرمان التي تدفع بأهالي هذه المناطق بعيداً عن «درب الممنوعات» الذي يمر من مناطقهم منذ عشرات السنوات. وتحول بعضهم إلى ما يشبه «روبن هود» عندما يوزع عليهم هباته، ويغدق عليهم المنح. غير أن هذا لا يأتي من دون ثمن. يقول مصدر أمني لبناني لـ«الشرق الوسط» إن تاجر مخدرات شهيراً، كان يتولى تغطية تكاليف تعليم بعض الطلاب الجامعيين، لكنه يحولهم لاحقاً إلى أدوات لتوزيع المخدرات في الجامعات والمدارس.

عهد الازدهار وصعود «روبن هود»

من تجارة حجمها 1.3 مليون حبة قبل الأزمة السورية، ارتفع العدد إلى 3 ملايين بعدها، ثم نزل إلى 400 ألف. يقول مصدر أمني لبناني:«كانوا طفاراً وتسيّدوا، ثم أعدناهم طفاراً».

عادت «أمجاد» تجار المخدرات في البقاع اللبناني بعد الانهيار المالي الذي ضرب البلاد في أواخر عام 2019، مترافقاً مع الانهيار السياسي الذي ضرب أوصال الدولة اللبنانية والانسداد السياسي الذي تفاقم مع انتهاء ولاية الرئيس السابق ميشال عون والتأخر في انتخاب خلف له.

استفاد هؤلاء من الحاجة التي يرزح تحتها أهالي المنطقة، التي يغلب عليها طابع الإهمال الرسمي والحرمان المزمن الذي يعود إلى أبعد من انهيار العملة الوطنية، وكاد يكون نهجاً دائماً لأهل السياسة، كما يقول سكان المنطقة.

سقط العديد من الشباب، والرجال في براثن هذه التجارة، خصوصاً مع اكتشاف «النجم الصاعد» في عالم المخدرات، أي الكبتاغون الذي اجتاح البلاد تصنيعاً وتصديراً بتأثير مباشر من الأزمة السورية في عام 2011، وبمشاركة فاعلة من تجار سوريين، ونافذين في السلطة والأمن على ضفتي الحدود اللبنانية السورية المعروفة أساساً بتسيبها.

باتت لكبار التجار، مكانتهم الاجتماعية، والسياسية أحياناً. بعضهم ترشح، أو فكر بالترشح للانتخابات. وبعضهم حاول تقديم نفسه على أنه «روبن هود» يأخذ من الأغنياء ويعطي الفقراء. فقدموا مشاريع ري وكهرباء، ومساعدات اجتماعية، وتوسطوا لأهالي المنطقة لحل مشاكلهم مع القانون، كما تواصلوا مع سياسيين ونافذين لتأمين وظائف. باختصار، كانت دويلتهم تنمو باطراد، بالاستفادة من تقاطع مع قوى أمر واقع تعمل على جانبي الحدود. كانت المعادلة بسيطة. تصدير المخدرات إلى «فسطاط الأعداء... والحصول على عملة أجنبية»، و «الكومشن» التي ينالها هؤلاء من هذه التجارة الهائلة الدخل، تكفي للمساعدة في تمويل دولة أو دويلة. يقول أحد التجار إنه يكفيه أن تمر واحدة من أصل عشر شحنات، ليكون رابحاً ومرتاحاً.

قصة الكبتاغون

يعدّ الكبتاغون «ثورة» في عالم المخدرات؛ فهو لا يحتاج إلى زراعة، وبالتالي لا أرض مكشوفة ولا محصول معرضاً لعوامل الطبيعة والعوامل البشرية، كما أنه غير مقيد بمواسم. وهو سهل التصنيع والتوضيب والتهريب فلا يمكن اكتشافه غالباً بوسائل الكشف التقليدية من أجهزة وكلاب بوليسية.

ولكن، إذا كانت السرية هي الصفة الغالبة للتوزيع والتهريب، فإن هذا لا ينطبق على التصنيع الذي لا يمكن إخفاؤه بسهولة. فتصنيع الكبتاغون يحتاج إلى معامل، وتصدر منه خلال عملية الصناعة روائح كريهة وقوية مما يجعل إخفاء المصانع أمراً صعباً ومعقداً، ولهذا لجأ المصنعون إلى إغراء أصحاب النفوذ بأموالهم، وإغراء أصحاب العقارات البعيدة عن السكن لاستغلالها.

استفاد تجار الكبتاغون من «المنطقة الرمادية» التي كان يقبع فيها في دول لم تعدّه مخدراً، أو تأخرت في تصنيفه، ومنها لبنان نفسه. كان رجال الأمن يقبضون على التجار، ويتهمونهم بحيازة أشياء اخرى ممنوعة غالباً ما تكون معهم، كسلاح أو نوع آخر من المخدرات.

ملوك السكك والخلطات السريّة

انتشر بداية في العراق وسوريا. كان بعض سائقي شاحنات النقل الخارجي يتناولونه لمدهم بالنشاط من أجل محاربة ساعات التعب والملل في قيادة الشاحنات. بعد عام 2000 بدأ الظهور الملموس له بوصفه مخدراً. وبين عامي 2007 و2011 بدأ ظهور «ملوك السكك»، أي التجار الذين يؤمنون نقل الكبتاغون من المصنع إلى المستهلك، خصوصاً نحو دول الخليج العربي.

تركزت المصانع في المناطق الحدودية من الجانب السوري بداية، لكن مع اندلاع الحرب السورية، انتقل العديد من التجار إلى لبنان وأسسوا مصانع بالتعاون مع شركاء لبنانيين.

الطريف، أن هؤلاء احتفظوا بسر الخلطة، ولم يزودوا بها شركاءهم اللبنانيين، كما تظهر اعترافات أكثر من تاجر قبضت عليه الاستخبارات العسكرية اللبنانية التي كانت رأس حربة المواجهة في البقاع والمناطق الحدودية. بعض التجار اكتشف الوصفة، أو اقترب منها إلى حد كبير، فظهرت الأصناف «المضروبة» أي الأقل جودة. هامش الربح الكبير أغرى المزيد من أجل خوض التجربة. حبة كلفتها أقل من 20 سنتاً تباع بـ20 دولاراً، وعندما تصل الأمور إلى البيع بالتجزئة يصل المبلغ إلى أكثر من 50 أحياناً.

مع بدء الأحداث السورية، سيطرت التنظيمات المتطرفة على المناطق الحدودية، ودمروا المصانع. هرب التجار إلى المناطق التي تسيطر عليها الحكومة السورية أو إلى لبنان. لكن هذه التنظيمات سرعان ما أدركت خطأها، خصوصا بين عامي 2012 و2014، فدخل بعضها في دائرة الاستفادة من أموال الكبتاغون وأذعنت لإغرائه فتحول جزءاً أساسياً من تمويلها.

تعدّ الفترة ما بين عامي 2012 و2023 قمة أرباح تجار الكبتاغون، فقد ازدهرت الصناعة والتجارة فيهما إلى حد كبير، بحيث بات هناك أربعة أو خمسة تجار كبار يحتكرون التهريب إلى دول الخليج. وانتقلوا إلى مرحلة التنافس في الشكل، فثمة من يحمص الحبة لتشبه الرمل الصحراوي، أو من يضع عليها إشارات وعلامات تجارية ثم ألواناً.

الدخول السوري الرسمي... و«فاغنر»

منتصف عام 2012، دخل نافذون في السلطة السورية في هذا المجال أيضاً. لم يتدخل هؤلاء في التصنيع والتجارة، لكنهم سهلوا عملية النقل وأعطوا «بونات» لتسهيل مرور البضائع عبر الأراضي السورية مقابل «رسم» مقطوع على أساس الصندوق. كان تجار الكبتاغون في تلك الفترة يسافرون إلى كل العالم تقريباً، لكن بيروت كانت مكانهم المفضل. فتح هؤلاء مطاعم ومقاهي في العاصمة اللبنانية كانت غطاء مثالياً للدخل.

تمر عملية التصنيع والتوزيع بعدة مراحل، تبدأ بشراء المواد الأولية وهو ما كان يتم بشكل قانوني بالكامل. فغالبية المواد المستعملة للتصنيع يمكن شراؤها من السوق لأن لها استعمالات أخرى شرعية. كان التاجر يتعامل مع أصحاب سوبرماركت يستوردون البضائع لصالحه مقابل أسعار مغرية. حتى الماكينات المخصصة للصناعة يمكن الحصول عليها بشكل عادي، فغالبيتها يستعمل من قبل مصنعي الدواء أو تجار المواد الكيماوية للتنظيف والأدوية والمبيدات والأسمدة وغيرها.

وتركزت معظم المصانع في المنطقة الحدودية في سوريا، لكن بعضها انتقل خلال الحرب إلى الجرود اللبنانية حيث باتت البيوت النائية أو المصانع المهجورة ومزارع المواشي هدفاً للتجار الذين استأجروها بأسعار مغرية. ولاحقاً تحولت بعض القرى السورية مأوى للتجار ومنها قرية جرماش التي باتت الملاذ المفضل للهاربين من الأمن اللبناني.

في فترة الحرب السورية شهدت التجارة ازدهاراً غير مسبوق. خرجت الحدود اللبنانية السورية والسورية الأردنية عن السيطرة، وخلافاً لصورة المعارك والحروب الدائرة بين الأطراف، كان التجار على علاقة جيدة بالجميع. استفاد الجميع من أموال التجار. وكانت لهؤلاء فائدة أخرى للحكومة السورية والروس وإيران و«حزب الله» الذين كانوا يخوضون حرباً صعبة، واعتمدوا على سكك تهريب المخدرات لتهريب السلاح إلى المناطق المحاصرة أو التي يصعب الوصول إليها، ونقل المعدات وأحياناً المقاتلين.

أما «فاغنر» الروسية، فقد أنشأت جسراً جوياً لنقل الكبتاغون إلى ليبيا مقبل 5 آلاف دولار للصندوق الواحد.

بين عامي 2014 و2020 انتقل الكثير من التجار إلى لبنان، مستفيدين من سيطرة التنظيمات المتشددة على مناطق حدودية واسعة والتأزم الداخلي في لبنان الذي انعكس انقسامات حادة، وبات كل من لا يمتلك عملاً جيداً يجرب حظه في هذه التجارة والصناعة. وهو ما أدى إلى ظهور البضائع الأقل جودة.

في تلك الفترة اهتزت قبضة الجيش اللبناني على الحدود، خصوصاً بعد الخسائر التي مني بها من جراء هجمات التنظيمات المتشددة وخطف جنود، فساد التجار بعض المناطق وشقوا طرقات بين البلدين خاصة بهم، ودخل بعضهم العمل السياسي في لبنان عن طريق دعم بعض المرشحين.

إعلان الحرب على المخدرات

مع استقرار الأوضاع الأمنية في لبنان، وتعاظم دور التجار، أعلن لبنان الحرب على المخدرات. في البقاع، والحدود مع سوريا كان الدور الأكبر للجيش اللبناني بحكم وجوده هناك، أما في المرافئ والداخل فقد كان دور قوى الأمن الداخلي.

بدأت استخبارات الجيش الحرب على التجار بالبقاع. تمت مداهمة مصانع الكبتاغون وتفكيك معاملها، لكن التجار «المسالمين» تحولوا دمويين، وقلما كانت تنتهي مداهمة من دون اشتباك بين الجيش والتجار. انتقل هؤلاء من البقاع إلى الجرود الوعرة الصعبة، فتمت ملاحقتهم هناك. ويقول مسؤول أمني لبناني إن مغريات كبيرة عرضت على الضباط والمسؤولين عن مكافحة التجارة، خصوصاً أن خسائر أول سنة مواجهة مع الجيش وصلت إلى نحو 200 مليون دولار.

لمواجهة الغارات التي يشنها الجيش، انتقل التجار إلى مصانع «موبايل» متنقلة توضع على شاحنات قادرة على التحرك سريعاً، لكن سيئات المصنع بالنسبة للتجار، أنه يصبح بطيئاً في التحرك عند بدء التصنيع.

حرب الرؤوس ومعركة «أبو سلة»

تحولت الحرب على المخدرات إلى حرب على الرؤوس، بدأ الجيش يستهدف رؤساء العصابات، وصولاً إلى استهداف بعضهم بطائرات مسيّرة وغارات جوية.

الإغارة على أحد أكبر تجار المخدرات في البقاع المعروف بأبو سلة، كانت رسالة واضحة للتجار الذين تواروا بعدها عن الأنظار تحت وطأة الإجراءات الأمنية. المطلوب علي منذر زعيتر، نال لقب أبو سلة من بداياته في تجارة المخدرات، حيث كان ينزل سلته المربوطة بحبل لأخذ المال من زبائنه وتسليمهم المخدرات، عندما كان مروجاً يقيم في ضاحية بيروت الشرقية.

كبر «أبو سلة» إلى درجة بات يمتلك فيها جيشاً صغيراً من المقاتلين والمروجين. عندما خطط الجيش للقبض على أبو سلة، اكتشفت استخبارات الجيش أن أبو سلة نشر 346 حاجزاً لحمايته وتنبيهه من أي محاولة للاقتراب منه، توزعت بين كاميرات مراقبة ثبتت على أعمدة ونقاط مموهة على شكل مقاهي «إكسبرس» على كل الطرقات المؤدية اليه.

وبعد 8 أشهر من التخطيط تم تنفيذ العملية خلال مأدبة عشاء كان يقيمها أبو سلة لأصدقائه. تمت السيطرة على بعض الكاميرات وحرفها عن وجهتها، فيما كان رئيس فرع الاستخبارات في البقاع يساهم في التمويه باصطحابه زوجته إلى عشاء في مقهى يعرف أن لأبو سلة عيوناً فيه في بيروت.

ارتبطت العملية بسرية بالغة، فلم يعرف بالتحضير لها سوى 7 أشخاص كانوا يعرفون أن الهدف «مالبورو» الاسم الذي أعطوه لأبو سلة لعدم تنبيهه إلى ما يحاك له.

نجا أبو سلة من ذلك الكمين بعدما اتخذ من زوجته درعاً، وقتل عنصراً من الجيش ثم فر. غادر إلى سوريا، ثم عاد بعد سقوط النظام ليقع تحت أنظار الجيش الذي استهدف سيارته بغارة جوية أدت إلى مقتله.

أبو سلة نفسه كان مسؤولاً عن كمين نصب لقوة من الجيش قبل سنوات أدى إلى مقتل عدد من الجنود وإصابة ضابط بات خارج الخدمة. وهو وفق التقييم الأمني اللبناني رقم واحد بين تجار المخدرات في لبنان. لديه نفوذ في الجامعات والمدارس التي كانت منطقة المبيعات الخاصة به. لهذه الغاية كان يدفع أقساط تلامذة وطلاب جامعيين، أو يسجل أزلامه فيها بهدف الترويج.

يقرأون الآن