في خطوة غير مسبوقة بتاريخ الرقابة المالية في لبنان، أصدر ديوان المحاسبة حكماً اعتُبر محطة مفصلية في مسار المحاسبة والمساءلة، فرض بموجبه عقوبات مالية صارمة على عدد من وزراء الاتصالات السابقين، ملزماً إياهم بردّ مبالغ طائلة إلى خزينة الدولة عبر سندات تحصيل بلغت 36.5 مليون دولار، مع احتمال إضافة نحو 20 مليون دولار أخرى تبعاً لمسار الدعوى المرتبطة بمبنى قصابيان.
ويكتسب القرار أهميته من التحول الجذري في دور ديوان المحاسبة، الذي انتقل من الاكتفاء بإعداد التقارير ورفعها إلى مجلس النواب، إلى ممارسة سلطته القضائية المباشرة بحق وزراء، استناداً إلى اجتهاد قضائي كرّسته الغرفة الثانية وأكده مجلس الشورى في قضية جسور البحصاص، ما منح الديوان صلاحية محاكمة الوزراء وتغريمهم ضمن نطاق رقابته القضائية.
في تفاصيل الحكم، حدّد الديوان الضرر الناتج عن صفقة مبنى "قصابيان" بنحو 10.8 ملايين دولار حتى آذار/ مارس2023، مع احتمال ارتفاعه في حال ثبوت تكاليف إضافية، بينها أتعاب المحامين ونفقات التقاضي. وأظهر تقرير "دار الهندسة" أن المبنى المستأجر غير صالح للاستخدام وغير آمن، ما يعني إنفاق ملايين الدولارات دون تحقيق أي منفعة فعلية للدولة.
أما في صفقتي الإيجار والشراء لمبنى الباشورة، فقد بلغ الضرر الإجمالي نحو 39.1 مليون دولار، نتيجة تضخيم سعر الشراء، دفع كلفة الاستكمال مرتين، وخسارة مواقف سيارات تقدّر قيمتها بنحو 4.92 ملايين دولار، إلى جانب غياب المناقصات وارتفاع أسعار التجهيزات بما يفوق أسعار السوق بنسبة 20%.
وكشف القرار أيضاً وجود رهونات كبيرة على المبنى لمصلحة أحد المصارف، وتسديد مزدوج لبعض المبالغ، إضافة إلى شبهات جدية برشى وتبييض أموال مرتبطة بشركات أُنشئت قبيل توقيع العقود بأسابيع قليلة.
وقضى الحكم بفرض الغرامات التالية:
جمال الجراح: 11.3 مليون دولار
يوسف شقير: 11.3 مليون دولار
نقولا الصحناوي: 8.07 ملايين دولار
طلال القرم: 4.92 ملايين دولار
فيما أُعفي الوزير بطرس حرب من العقوبة لقيامه بإجراءات جنّبت الخزينة خسائر إضافية، بينما فُرضت غرامة على الوزير طلال حواط مع وقف التنفيذ لعدم ثبوت سوء النية.
كما ألزم الديوان شركة "زين" بدفع تعويض قدره 2.75 مليون دولار نتيجة مخالفة تعليمات وزارية سابقة، وأحال الملف إلى النيابة العامة التمييزية والجهات الرقابية المختصة لمتابعة الشبهات الجزائية.
وطالب ديوان المحاسبة وزارتي المال والاتصالات ومديرية الخزينة بتقديم تقارير خلال شهر حول الخطوات المتخذة لتنفيذ القرار واسترداد الأموال العامة، مؤكداً أن هذا الحكم يؤسس لمرحلة جديدة في محاسبة المسؤولين وتكريس مبدأ عدم الإفلات من العقاب.
ويُعد هذا القرار سابقة تاريخية في لبنان، إذ يثبت للمرة الأولى أن المسؤولية السياسية والمالية ليست بمنأى عن الملاحقة القضائية، وأن الهدر يمكن تحديده ومحاسبة مرتكبيه واسترداد المال العام منهم.


