منذ مطلع نيسان/أبريل الجاري، تعيش السودان أوقاتا عصيبة، ويقبع الوضع الامني على صفيح ساخن بسبب توترات كبيرة بين الجيش السوداني بقيادة عبد الفتاح البرهان، وقوات "الدعم السريع" بقيادة محمد حمدان دقلو، جراء خلافات "حول بعض القضايا العالقة". لكن، ماذا في تفاصيل الخلافات؟ التي تطورت الى اشتباكات خطيرة في تحول مفاجئ للصراع بينهما، يهدد باندلاع حرب أهلية، مع العلم أن العديد من المحللين السياسيين والاستراتيجيين قد اعتبروا في وقت سابق أن لا مجال أمام الجيش و"الدعم السريع" سوى التوصل إلى اتفاق، وأن الطرفين يسعيان للحصول على أكبر قدر ممكن من المكاسب على طاولة المفاوضات، لكن لن ينجرا الى القتال خصوصا أن الضغوط الدولية والإقليمية كبيرة عليهما.
في اليوم الأول لانقلاب 25 تشرين الاول/ أكتوبر الماضي الذي نفذته القوتان ضد السلطة المدنية، بدا أن الخلافات تكبر بينهما إذ قال قائد قوات الدعم السريع، الجنرال محمد حمدان دقلو (المعروف بحميدتي)، في تصريحات سابقة، إنه اكتشف "منذ اليوم الأول، أن الانقلاب نُفذ ليكون بوابة لعودة نظام المؤتمر الوطني، نظام الرئيس المعزول عمر البشير، ولم يُحقق مخرجاً للاحتقان السياسي". واعتذر حميدتي عما اعتبره "خطأ المشاركة فيه". كما واصل حملة انتقادات واضحة، لفشل الانقلاب في تقديم أي شيء يذكر بعد نحو عام ونصف العام من تنفيذه، بما في ذلك تشكيل حكومة تنفيذية لسد الفراغ الحاصل، عدا انتقاداته للوضع الاقتصادي وتردي الخدمات العامة.
وما أن اقترحت نقابة المحامين السودانيين، منتصف عام 2022، مسودة مشروع دستور انتقالي، شكّل لاحقاً أساساً لعملية التسوية السياسية بين عسكر الانقلاب والمدنيين، سارع حميدتي للترحيب بها ومساندتها ودعمها، فيما تحفّظ عليها الجيش لبعض الوقت. لكن تحت ضغط الأطراف الدولية، ووساطة لجنة رباعية مكوّنة من الولايات المتحدة وبريطانيا والسعودية والإمارات، قَبِل الجميع بالمسودة، بمن فيهم الجيش، كأساس للنقاش.
وبعد ذلك، جرى تواصل مباشر وغير مباشر بين العسكريين والمدنيين بعد أشهر من القطيعة إثر الانقلاب، وتُوّجت تلك الاتصالات في 5 كانون الأول/ ديسمبر الماضي، بالتوقيع على اتفاق إطاري "مبدئي" بين المدنيين والعسكريين، ينص على تشكيل حكومة مدنية كاملة وإبعاد الجيش عن السياسة، إضافة إلى بنود أخرى تتعلق بالعدالة، وتفكيك نظام البشير، والإصلاح العسكري والأمني، وتكوين جيش واحد بدمج الدعم السريع فيه.
وأظهر حميدتي دعما للاتفاق الإطاري، ولعملية التسوية المسماة بالعملية السياسية، فيما أظهر قادة الجيش في أكثر من مناسبة تحفظاً عليها بسبب ما قالوا إنه "ضعف قاعدتها السياسية ورفضها من قِبل بعض القوى السياسية".
وانتهز قادة الجيش نصوصاً في الاتفاق الإطاري عن الإصلاح الأمني والعسكري ودمج الجيوش خارج المنظومة العسكرية في الجيش الوطني، للدفع بمطلب دمج وتسريح قوات الدعم السريع. ثم خرج الطرفان في حرب كلامية خلال الأسابيع الماضية، ركز فيها الجيش على موضوع الدمج، فيما ركزت قوى الدعم السريع على مطالبة قادة الجيش بتسليم السلطة للمدنيين وفقاً لما ينص عليه الاتفاق الإطاري.
وفي منتصف آذار/ مارس الماضي، نجحت وساطات إقليمية ومحلية في جمع قادة الجيش والدعم السريع، ليوقّع الطرفان على اتفاق جديد يحدد أسس ومبادئ الإصلاح الأمني والعسكري، ويسمح بقيام ورشة خاصة بالإصلاح الأمني والعسكري لتناقش تفاصيل ما تم الاتفاق عليه، ووضع توصيات لإدراجها ضمن الاتفاق النهائي في الدستور، وكذلك تعمل بها الحكومة المدنية الانتقالية المقبلة كواحدة من برامجها في فترة الانتقال.
وعُقدت الورشة في الفترة من 26 إلى 29 آذار/ مارس، وفيها قدّمت قوات الدعم السريع، ورقة لإجراء إصلاحات عميقة في الجيش قبل البدء في الدمج، بما يشمل تجريم الانقلابات العسكرية وتجريم التدخّل في العمل السياسي، ومراجعة العقيدة العسكرية وأسس القبول في الكليات الحربية، وضمان تمثيل كل أقاليم السودان في الجيش، وتطهير الجيش من العناصر الأيديولوجية والمسيّسة. لكن، في اليوم الأخير من الورشة، انسحب ممثلو الجيش بحجة أن الورشة لم تحسم كل المواضيع الضرورية، ومنها المدة المحددة لدمج قوات الدعم السريع، قبل أن يعود الجيش ويؤكد التزامه بالعملية السياسية واستعداده لمواصلة النقاش عبر اللجان الفنية في موضوع الإصلاح الأمني والعسكري.
وبما أن اللجان الفنية لم تصل إلى شيء، تم تأجيل التوقيع على الاتفاق النهائي المحدد في الأول من نيسان/أبريل الحالي، ومنحت الأطراف المدنية والميسّرون الدوليون، الجيش والدعم السريع فرصة ثانية للتفاوض بينهما حتى 6 نيسان/أبريل لإنهاء خلافاتهما والتوقيع مع الآخرين على الاتفاق النهائي لإنهاء الأزمة السياسية في البلاد. الّا أن التوقيع لم يتم بسبب الخلاف حول الجدول الزمني لدمج قوات الدعم السريع في الجيش.
وفي هذا الاطار، استبعد المتحدث الرسمي باسم الجيش العميد نبيل عبد الله "التوقيع النهائي على العملية السياسية ما لم يتم وضع جداول لدمج قوات الدعم السريع في الجيش بصورة واضحة"، معتبرا أن "ترتيبات الدمج لا بد أن تكون جزءاً من الاتفاق النهائي لأنه لا يمكن أن نقر اتفاقاً، ويكون هناك جيشان في البلد".
الجيش السوداني يحذر
وكان الجيش السوداني قد حذر ، فجر الخميس الماضي، في بيان ،"من تحشيد القوات والانفتاح داخل العاصمة وبعض المدن، من جانب قيادة قوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو"، مشيرًا إلى أن "ذلك يشكل تجاوزًا واضحًا للقانون حيث إن تلك التحركات تمت دون موافقة قيادة القوات المسلحة ودون أي تنسيق معها".
ولفت البيان الى أن "هذه الانفتاحات وإعادة تمركز القوات يخالف مهام ونظام عمل قوات الدعم السريع وفيه تجاوز واضح للقانون ومخالفة لتوجيهات اللجان الأمنية المركزية والولائية، واستمرارها سيؤدي حتمًا إلى المزيد من الانقسامات والتوترات التي ربما تقود إلى انفراط عقد الأمن في البلاد".
وأضاف: "تجدد القوات المسلحة تمسكها بما تم التوافق عليه في دعم الانتقال السياسي وفقًا لما تم في الاتفاق الإطاري، وتحذر القوى السياسية من مخاطر المزايدة بمواقف القوات المسلحة الوطنية".
قوات الدعم السريع تنتشر في السودان
هذا، وأعلنت قوات الدعم السريع في وقت سابق أنها "تنتشر في جميع أنحاء البلاد في إطار واجباتها العادية، وذكرت أنها تنتشر وتتنقل في كل أرجاء الوطن من أجل تحقيق الأمن والاستقرار، ومحاربة ظواهر الإتجار بالبشر، والهجرة غير الشرعية، ومكافحة التهريب والمخدرات، والجريمة العابرة والتصدي لعصابات النهب المسلح أينما وجدت".
استعداد لتهدئة التوتر
وفي ساعة مبكرة من صباح السبت، أشار الوسطاء في بيان الى أنهم "اجتمعوا مع البرهان الذي وجدوا لديه استعدادا للإقدام على أية خطوة تعين على حلحلة الإشكال الطارئ بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع وإعادة الأمور إلى نصابها الطبيعي".
وطمأنوا " المواطنين الكرام بأن الأزمة في طريقها إلى زوال".
ولفتت مصادر في الجيش لـ"رويترز" الى أنه "من أجل تهدئة التصعيد، يجب على قوات الدعم السريع سحب أفرادها المتمركزين قرب مطار عسكري في مدينة مروي الشمالية وأن تكون تحركاتها بالتنسيق مع الجيش وضمن الحدود القانونية". في حين، أكدت مصادر من قوات الدعم السريع لـ"رويترز"، الجمعة، أن " التحركات جاءت بالتنسيق مع البرهان".
وكشفت مصادر مقربة للبرهان ودقلو، الجمعة، إنهما "ما زالا على خلاف حول من سيتقلد منصب القائد العام للجيش خلال فترة الاندماج التي ستمتد عدة سنوات. وتقول قوات الدعم السريع إن القائد ينبغي أن يكون الرئيس المدني للدولة وهو ما يرفضه الجيش".
"هجوم كاسح"
وعلى الرغم من تأكيد الطرفين تمسكهما بالتهدئة، اندلعت الاشتباكات بين الجيش وقوات الدعم السريع في العاصمة السودانية الخرطوم منذ صباح اليوم السبت في تحول مفاجئ للصراع بينهما إلى مواجهة مسلحة.
وبعد دقائق من اطلاق النار الكثيف في الخرطوم، اتهمت قوات الدعم السريع، في بيان "الجيش السوداني، بشن هجوم كاسح ضد إحدى قواعدها العسكرية"، لافتة الى"أننا تفاجأنا بقوة كبيرة من القوات المسلحة تدخل مقرنا في الخرطوم".
وأشار البيان الى أنه " تمت محاصرة قواتنا التي تعرضت لهجوم كاسح بكافة أنواع الأسلحة الثقيلة والخفيفة. أجرينا اتصالات مع كل من الآلية الرباعية ومجموعة الوساطة لإطلاعهم على التطورات. نهيب بالشعب السوداني وبالرأي العام الدولي والإقليمي إدانة هذا المسلك".
ولاحقا، أعلنت قوات الدعم السريع عن "السيطرة الكاملة" على القصر الجمهوري في وسط الخرطوم ومطار الخرطوم ومطاري مروي شمالي البلاد والأبيض في وسطها.
وأشارت في بيان الى أن "القوات المسلحة، هاجمت في وقت متزامن قواعد ومقرات قوات الدعم السريع في الخرطوم ومروي ومدن أخرى جاري حصرها"، مؤكدة أن "قوات الدعم السريع قامت بالدفاع عن نفسها والرد على القوات المعادية وكبدتها خسائرا كبيرة".
وأكد البيان أن "قوات الدعم السريع تقف إلى جانب جميع المواطنين وستواصل جهودها من أجل حماية مكتسبات الوطن وثورة شعبه"، في إشارة إلى ثورة 2019 التي أطاحت بعمر البشير بعد ثلاثين عاما في السلطة.
"قوة متمردة"
أما الجيش السوداني، فقد عقّب على تلك الأحداث "باتهام قوات الدعم السريع بمهاجمة عدة قواعد تابعة له". مؤكداً في بيان له أنه " لا يزال يسيطر على جميع القواعد والمطارات"، وأن "قواته الجوية تنفذ عمليات لمواجهة قوات الدعم السريع".
وقال البرهان في حديث لقناة الجزيرة، إن ما حدث يجب أن يمنع تكوين أي قوات خارج رحم القوات المسلحة، وأن أحداً لا يفضل الحرب، إنما ما حدث يجب أن يكون عظة وعبرة.
في حين قال قائد قوات الدعم السريع للجزيرة، إن العمليات القتالية ستنتهي في القريب، وان قواته مع خيار الشعب السوداني والجيش يجب أن يعود إلى ثكناته
من جهتها، لفتت المخابرات العامة السودانية الى أنه "تم إعلان قوات الدعم السريع، قوة متمردة، وعلى الشعب الحيطة والحذر".