ما يلفت اليوم أن معظم المحلّلين وكتّاب الصحافة والمواقع والمطابخ السياسية والاعلامية، إنبرَوا للقراءة في قرار زعيم "حزب اللّه" حسن نصراللّه الخروج من صمته المديد، توقيتاً ودلالاتٍ وأبعاداً، وتبارَوا في محاولات استنباط ما سيقوله ويعلنه بعد ظهر يوم الجمعة المقبل.
لا أدّعي امتلاك مصباح ديوجين ولا فانوس علاء الدين السحري ولا براعة ضاربيّ المنادِل كي أستقرئ طوايا خطابه ودوافع خروجه إلى العلن بعد طول انحباس، لكنني أمتلك حق المقاربات والمقارنات والاستدلال لتلمّس الموقف الواقعي والممكن في غمرة تحولات الوضع الجيوسياسي والاستراتيجي الغامض الذي يحكم المنطقة.
أبسط الأمور العقلانية الموضوعية يدفع إلى القول إن توقيت إطلالة نصراللّه لا يرتبط بنقلة نوعية أو بحدث انقلابي في أزمة غزة وارتدادها على وضع جنوب لبنان، بل بضرورة الظهور الاعلامي لاحتواء الضغوط والتساؤلات داخل "حزب اللّه" و"محور الممانعة" أولاً، والمآخذ ومعها التنمّر من خارجهما، أي من خصومهما المحلّيين والإقليميين، ثانياً.
أمّا مضمون ما سيقوله ويعلنه فلا يمكن أن يكون تأسيسياً، بمعنى رسم خطة مواجهة أو حرب للمرحلة المقبلة، بل سيكون توصيفياً للمرحلة السابقة التي تطوي ٢٧ يوماً حين ظهوره.
ومن البديهي أن يركّز هذا التوصيف على مسألتين: إنتصار "حركة حماس" في ٧ تشرين الأول/ أكتوبر، وإشغال "حزب اللّه" جبهة شمال إسرائيل وليس إشعالها، مع التنويه بسقوط عشرات "الشهداء على طريق القدس"، والتبريك لذويهم وبيئتهم.
والسؤال هو: لماذا لا يُنتظر أن يتحدّث عن المرحلة الجديدة من الحرب إلّا بالشعارات التقليدية السابقة كـ"إزالة إسرائيل من الوجود" و" توحيد الساحات" و"الرد في المكان والزمان المناسبَين"؟
والجواب أنه فعلياً ليس هو صاحب القرار، بل مرجعيته في طهران، وهي منخرطة في مفاوضات ومساومات، بعدما خفّضت سقفها إلى مستوى البحث عن تسوية.
يحق لنصراللّه الخوض في ما جرى وليس في ما سيجري. هذا الخط الأحمر رسمته إيران عبر وزير خارجيتها عبد اللهيان حين زار الضاحية قبل ٣ أسابيع وصادر مبادرة "ذراعه" إلى الكلام.
والحقيقة أن نصراللّه لا يملك جواباً عن سؤال محوري ومركزي هو لماذا لم يقتنص الفرصة الثمينة لحظة انتصار "حماس" وتضعضع إسرائيل، وينفّذ "وعده الصادق" في اقتحام الجليل للإطباق من الشمال والجنوب على العدو في اتجاه القدس!؟
قد يكون لديه تبرير لضياع الفرصة الاستراتيجية بسلسلة عناوين: إن اللحظة لم تكن مؤاتية، وقرار بهذه الخطورة يؤخذ بعقل بارد وليس تحت ضغط النار، والتوقيت ليس مقفلاً بل مفتوح على مستقبل الصراع، و"محور المقاومة" يقرر مجتمعاً.
باختصار، لا يمكن أن يكون الخطاب العتيد لنصراللّه فاصلاً في وضع لبنان وغزة والإقليم، أو أن يؤرَّخ لما قبله وما بعده كما يتمنى ويشتهي أنصاره، بل مجرد تعويض معنوي سياسي عمّا فات، وليس برنامجاً أو مساراً أوخطّة لما هو آت.