حرب غزة وسقوط الرهانَين

في غمرة الحرب الضارية والضريرة التي تشنّها الآلة العسكرية الإسرائيلية الخطيرة على قطاع غزة، وتحت الغبار الكثيف الذي يحجب أهدافها الحقيقية، القريبة أو البعيدة، لا بد من فسحة تبصّر بعقل بارد، وأخذ مسافة تأمّل تتيح بعض التفكير الهادئ وانقشاع الرؤية النسبية الممكنة لاستشراف التوجهات والنتائج، على مقلبَي المواجهة التراجيدية. فعلى المقلب الإسرائيلي، وتحت ضجيج الترسانة المدججة والمجازر الخطيرة في غزة والضفة الغربية، باسم "السيوف الحديدية"، هناك حالة انكسار لاستكبار "الجيش الذي لا يُقهر"، وارتدادات مع اهتزازات عميقة أحدثها فالق "طوفان الأقصى"، وليس من السهولة شفاؤها من وجدان الكيان، ولا معالجتها باجتياحات الأرض المحروقة وغارات الإبادة.

وفوق هذا المأزق الميداني، تتراكم على تل أبيب ضغوط أربعة، أولها انقلاب في الموقف الشعبي العالمي ضدها بعد تعاطف عابر، وثانيها مواقف الأمم المتحدة خصوصاً لجهة تفعيل المادة ٩٩ من ميثاقها وعقد جلسة لمجلس الأمن الدولي، وثالثها حرج واشنطن وأوروبا من التعنّت الإسرائيلي في مسائل تحييد المدنيين والهدنة الإنسانية وخطر توسيع رقعة الحرب، ولا يغيب عن خلفية الدعم الأميركي الواسع انزعاج البيت الأبيض من هوس متطرّفيّ حكّام تل أبيب، أمّا رابعها فهي الإدانات الصريحة من المؤسسات الانسانية والرقابية والإعلامية الدولية لاستهدافها عمداً الصحافيين والمصورين في جنوب لبنان وغزة.

كل هذا ينعكس ارتباكاً في صنع القرار، ويجعل المشهد الإسرائيلي مزدوجاً ومتناقضاً: صلافة عسكرية من فوق وهشاشة سياسية من تحت. أمّا على مقلب "حركة حماس" ومشاركيها في الميدان، ووراءهم في العمق "محور المقاومة والممانعة" بقيادة الجمهورية الإسلامية في إيران، فالمشهد ليس أقل ضيقاً وارتباكاً. الواضح أن "حماس" لم تعُد بالجهوزية نفسها، بل تصاغرت بعملاقها المفاجئ في عملية "طوفان الأقصى"، وضعفت قدرتها على إمطار العمق الإسرائيلي بآلاف الصواريخ كما كانت تفعل، وخسرت مواقع كثيرة في شمال القطاع وجنوبه، ولم يأتِها الإسناد اللازم والكافي من حلفائها. ولعلّ هذا الضيق العسكري على الأرض كان أحد دوافعها إلى إعلان "طلائع طوفان الأقصى" من لبنان، وكأنه نوع من التعويض عمّا خسرته في ميدانها الطبيعي، بغض النظر عن اضطرارها للتوضيح والتفسير، أو التراجع العلني الإعلامي، تحت ضغط الرفض اللبناني الواسع. وفي "غلافات الحرب" خارج غزة، بدا واضحاً أن قرار إيران هو عدم التورط في مواجهة مباشرة وشاملة، والاكتفاء ب"مشاغلات" مضبوطة، بدءاً من اليمن والعراق وشرق سوريا وصولاً إلى جنوب لبنان.

وليس تفصيلاً حرصُها على تكرار تنصّلها في تصريحات رسمية من مسؤوليتها عن مسيّرات الحوثيين وصواريخهم، ومن القرصنة البحرية ومشاركات الساحات الأخرى. فوراء هذا الانضباط مفاوضات ومساومات في الكواليس الدبلوماسية بحثاً عن المخارج والتسويات والأثمان. والتاريخ الإيراني يشهد على براعة طهران في حياكة السياسة البراغماتية السجّادية الشهيرة. وقد فرضت هذه البراغماتية استدارة ولو بطيئة في الموقف الإيراني ترجمها قبول رئيس الجمهورية إبراهيم رئيسي، ولو بالصمت المعبّر، مقررات القمة العربية الإسلامية الأخيرة في الرياض، بمرتكزاتها الثلاثة: حصرية الشرعية الفلسطينية في منظمة التحرير، حل الدولتين عبر معادلة الأرض مقابل السلام، وعقد مؤتمر دولي لإقرار هذا الحل. وهي مرتكزات تتعارض مع النهج الإيراني المتّبع منذ قمّة "المبادرة العربية" في بيروت ٢٠٠٢. وجاء الموقف الأشد بلاغةً عن هذا التوجه المركزي الذي أقرّته "ميتروبول وحدة الساحات" (أي طهران)، على لسان الأمين العام ل"حزب اللّه" السيد حسن نصراللّه في خطابه الأخير، حين أعلن بكل واقعية صادمة عن استحالة الانتصار على إسرائيل ب"الضربة القاضية"، بل ب"النقاط" وتراكم الانجازات.

والمعروف أن الانتصار بالنقاط، وفقاً لأصول مبارزة الملاكمة، يعني الربح المؤقت على الخصم بعدد اللكمات، ويحتفظ هذا الخصم (أي إسرائيل) بحضوره وبحيويته الكاملة استعداداً لمبارزة لاحقة قد يربحها. من هنا، وفي مقارنة المشهدين على طرفَي الصراع الدامي الدائر، وسواء بقيت الحرب محصورة في غزة أو توسّعت، فإن ملامح النتائج بدأت تظهر، ولو طرأت عليها تعديلات وتفاصيل بفعل تطور الميدان، لا تغيّر كثيراً في جوهرها. وأبرز هذه النتائج التي يمكن تأكيدها، سقوط الشعارّين المتصادمَين: إسرائيل العظمى بأوهامها التلمودية واصطفائها الإلهي ك"شعب اللّه المختار" وجغرافيتها المتضخمة، ونظرية إزالتها من البحر إلى النهر. لذلك، بدأنا نعاين بوضوح غياب هذين الشعارَين عن الأدبيات السياسية لدى الطرفَين، وتخلّيهما عن السقوف العالية، وعن الوقوف على رؤوس الأشجار. فإسرائيل محكومة بقبول فلسطين، دولةً وشعباً، مهما استشرست وتمادت في حروبها، وجبهة أعدائها محكومة بوضع الكثير من الماء في نبيذها الحار. ولعلّ الإيجابية الوحيدة في خضم معارك القتل والتصفيات، هي ثنائية الانهاك المزدوج والمتقابل، المؤدّي حكماً إلى تسوية، فحلً، فسلام مستدام. إن حكمة العرب والمسلمين في قمتهم الأخيرة، وبعد ثلاثة أرباع القرن من الحروب والمآسي والتسويات المبتورة، تفتح الأفق المغلق، كي تكون الحرب الراهنة هي الأخيرة على طريق سلام فلسطين والشرق الأوسط، لا حرب المئة، أو الألف عام.

يقرأون الآن