للأسبوع الثاني على التوالي، يتولى وليد جنبلاط، اختراق المشهد السياسي الراكد، بالإقدام على القفز من مربعه الجالس فيه، إلى مربع آخر على رقعة الشطرنج السياسية في لبنان. مما يستدعي بطبيعة الحال، تحرك وتبدل باقي الأحجار والبيادق على الرقعة المحلية.
في الأسبوع الماضي، حرك بيدقه بدعوة سليمان فرنجية وعائلته إلى العشاء في منزله، في كليمنصو، تحت شعار ترسيخ التقاليد وتمتين العلاقات العائلية التاريخية بين البيتين، فرنجية وجنبلاط والمنطقتين زغرتا والمختارة. مع كل ما تحمله أمسية العشاء من إشارات ورسائل سياسية دالة في كل الاتجاهات لمن يعنيهم الأمر.
وفي الأسبوع الثاني، أي في هذا الأسبوع، استكمل أبو تيمور، تحركه على رقعة الشطرنج بحركتين اثنين، فيهما كل الاحتراف السياسي وتحقيق المصالح.
الأولى، الذهاب إلى العشاء إلى مائدة السفارة الإيرانية، والتي ليس من المستحب التفلت منها في هذا الظرف، ورفع راية مقاومة حركة حماس مع دفق من الإعجاب بيحيى السنوار وخططه العسكرية والحربية، والإفصاح أنه لا يمانع في انتخاب سليمان فرنجية، مستكملا حركته برمي المفرقعة الكبرى، عبر المطالبة بضم إيران إلى اللجنة الخماسية قائلاً: "دوزنة الخماسية هي أن "تصبح زائداً واحداً"، في إشارة غير مباشرة إلى أن لا جدوى من كلام عن تحريك الملف الرئاسي ما دامت إيران خارج اللجنة".
والحقيقة، أن جنبلاط في حركته الأسبوع الماضي والأسبوع الذي تلاه، دل مرة أخرى وجديدة، أنه لاعب شطرنج سياسي محترف من الدرجة الأولى طبعاً، زائد اتقانه "البلياردو السياسي" بمعنى أنه يتقدم خطوة تفضي إلى تحريك باقي الأحجار ثم يتبعها بضربة ركنية تعيد خلط كل "الطابات" على الطاولة.
وهو مع إقدامه إلى الأمام، لا يتخلى عن الحذر الواجب، لضمان الربح وتخفيف الخسائر إلى الحد الأدنى إذا ما كانت واردة.
وإذا كانت خطوة رمي فكرة ضم إيران إلى اللجنة الخماسية، لتصبح لجنة (5+1)، قد جالت في ذهنه منذ وقت طويل، فإنه لم يتعجل في طرحها قبل أوانها، بل انتظر إلى اللحظة المناسبة بعد أن فتحت العربية السعودية علاقاتها مع إيران، ثم انتظر لكي يتأكد من جدية خطوات الرياض تجاه طهران، لكي يعود هو ويرمي باقتراحه ضم إيران إلى الخماسية. وبذلك يكون جنبلاط قد سجل في سجل طهران وحزب الله نقطة انحيازية لصالحه، وفي الوقت عينه، لم يثر غضب أو انزعاج الأمير الجالس في مدينة نيوم على شاطىء البحر الأحمر.
وهكذا، يكون جنبلاط المتابع لاتجاه الرياح الإقليمية والمحلية، قد ضرب ضربة من "ناطر على المفرق"، قوية وإيجابية في حساب طهران وحزب الله، من دون أن يخسر وده وصلاته مع الأمير الصاعد نفوذه في أرض الحرمين الشريفين.
لكن جنبلاط المتعجل، والمتبرم، من ثغرات وعثرات الماضي، تخلى بسهولة عن ما سبق أن تولاه وقاده وتقدم صفوفه سابقاً، بسرعة مستغربة، حيث كتبت الصحيفة التي أجرت معه الحوار تقول: "يبتسم ساخراً إذا ما ذُكّر بشعار "لبنان أولاً"، فـ"الوقت تغيّر عن الأيام التي رفعنا فيها هذا الشعار السخيف أيام ما يُسمى بـ14 آذار".
فات جنبلاط المتفلت من "سخافة شعار 14 آذار" أن هذه الحركة كان هو أحد أبرز قادتها، وقد سقط منها شهداء كانوا رفاقاً لوالده، وهو، كان ساهم في إدخال تلك "الحركة السخيفة"، والبلاد في منزلقات ومفترقات خطيرة وحساسة.
في الواقع، ربما كان شعار "لبنان أولاً" شعاراً سخيفاً وسطحياً، لكن المدهش أن من ينتقده الآن، كان أول من ساهم في صناعته وترويجه.
لكن جنبلاط لم يكن الشخصية الوحيدة، التي بدأت النزول عن الشجرة وترتيب الركوب، على الموجة المقبلة الآتية من شواطىء غزة. إذ سارع رئيس التيار الوطني الحر "الألعبان" الآخر المقابل، إلى خطوات استباقية موازية لخطوة جنبلاط، عبر حضور تياره ونوابه لجلسة إقرار الموازنة بعد طول غياب وانقطاع، تحت شعار "تشريع الضرورة" ولو من "دون نفس"، مع فائض في الغزل المكثف والمكشوف مع الرئيس نبيه برّي و"الثنائي الحاكم" الذي أصبح ثلاثياً بانضمامه إليهما.
جبران الفطن، كان مهد الطريق للتراجع بكلام أولي، للسير في ركاب الموافقة على انتخاب سليمان فرنجية، أو من تنتجه الموازين المقبلة، بالقول: "لن أقبل. وسينتظرون وقتاً طويلاً ما خلا حالاً واحدة هي إعطاؤنا اللامركزية الإدارية والمالية الموسعة والصندوق الائتماني، والاتفاق على برنامج الحكم في العهد الجديد، عندئذ أمشي بكليهما".
أضاف: "البندان الأولان عندي أكثر أهمية، بما في ذلك من سليمان فرنجية وجوزف عون وأي سواهما".
إذا كان جنبلاط قد قالها بصراحة "لا مانع عندي من السير بسليمان فرنجية"، فإن باسيل قرن الموافقة بشروط ليست مستحيلة التحقق، وقلد جحا حين فرض شروطاً هلامية وهمية، وطالب بمشروعين تحقيقهما بات مطلباً لكثر، أي اللامركزية الإدارية والصندوق السيادي.
في المحصلة، وانطلاقاً من هذه المعطيات الداخلية، معطوفة على تطورات المنطقة، يكون سليمان فرنجية قد اقترب أكثر من أي وقت مضى من قصر بعبدا، بالتقاطع مع تطورات الإقليم التي تُرسم بالحديد والنار، حيث أنه قد يضطر للانتظار إلى نهاية حرب غزة كما توحي بعض المواقف، إلا إذا دخل على خط التطورات أمر غير محسوب، بدل المعادلات المتكونة في المنطقة والمنعكسة على لبنان لا محالة.
المدن