يبقى ٢٤ عاماً كي تبلغ إسرائيل مئويتها، وهي في نظر نفسها دولة إلى الأبد، وفي نظر أعدائها كيانٌّ هش آيل إلى السقوط قبل بلوغه الثمانين. هي تتجبّر وتخطط لإلغاء فلسطين، وهم يراهنون على تفكّك "بيت العنكبوت" من البحر إلى النهر.
ولا بدّ من نزول الطرفَين إلى أرض الواقع، في لحظة تاريخية ما، مهما استشرت الحرب أو تمدّدت، فيرضخان لقبول التسوية التي تنسجها المطابخ الدولية والعربية والإقليمية تحت عنوان "حلّ الدولتَين"، مع بقاء الغموض حتّى الآن حول الجغرافيا والديمغرافيا وطبيعة السيادة والسلطة، وقد بدأت طلائع التسوية العتيدة من خلال إعادة إنتاج السلطة الفلسطينية والحوار بين حركتَي "فتح" و"حماس". مع توقّع أن ينسحب التغيير على حكم المتطرّفين بقيادة نتنياهو المصنّف "ملكاً"، فتأتي سلطة إسرائيلية عاقلة تستطيع عقد تسوية ثابتة مع نظيرتها الفلسطينية تحت رعاية دولية أُممية.
وما يجوز بين فلسطين وإسرائيل، لا يبدو أنه جائز في لبنان، أي "حلّ الدولتَين"، لأن وطن الأرز من طبيعة مختلفة أولاً، وتقسيمه يعني ثانياً تقسيم دول أُخرى في المشرق العربي، وتحديداً سوريا والعراق.
والحلّ العقلاني الذي يمكن طرحه لأزمة لبنان يُمكن سحبه على هاتين الدولتين وغيرهما من الدول المركّبة المبنيّة على مكوّنات شتّى.
فما هو هذا الحلّ الطبيعي والمنطقي والعقلاني لأزمة لبنان كنموذج صالح لسواه؟
في الواقع، ولتفادي خطر التقسيم الذي يرفضه الدستور اللبناني، ومعه خطَرا التوطين والتجزئة، ولمنع التوحيد بالقوة عبر هيمنة فريق على آخر بفعل منطق غلبة السلاح أو العدد، مع أن هذا الاحتمال غير قابل للتطبيق، هناك خياران للحلّ:
- إمّا دولة مركزية بنظام مدني علماني حديث وعصري على كل المستويات، تقوم على مبدأَي المواطَنة والحق، من خارج الموانع أو التحفّظات الدينية والطائفية، مع التزام مبدأ الحياد عن صراعات الخارج. وهنا، يجب الانتباه إلى أن مقولة "إلغاء الطائفية السياسية" وحدها فقط تُخفي مجازفة الغلبة الطائفية بحكم بقائها في النفوس ونصوص الأحوال الشخصية والمحاكم الشرعية والروحية والجعفرية والمذهبية وسواها. ومن الضروري هنا الإشارة إلى أن الدستور اللبناني نصّ مرةً على إلغاء الطائفية بدون أي نعت أو وصف، ومرّتَين على إلغاء الطائفية بوصفها السياسي، ما يترك التباساً في نية المشترع حول ما إذا كان المقصود إلغاء الطائفية بصورة كاملة في كل المجالات إلى حدّ العلمانية، أو إلغاء الطائفية السياسية فقط.
- وإمّا دولة لامركزية تقوم على مبدأ الحيادَين، حياد داخلي للسياسة والسلطة عن الطوائفيات، وحياد خارجي عن الصراعات.
وفي الخيارَين يتّضح أن الحياد شرط لازم وضروري لقيام دولة لبنانية مستقرة ذات سيادة واستقلال مستدامَين، لأن انغماس لبنان في صراعات الخارج شلّ الدولة وجوّفها منذ "اتفاق القاهرة" ١٩٦٩ والوصاية السورية إلى انخراط "حزب الله" في حربَي سوريا وغزة وما بينهما، ولم يكن لهذا الانخراط أي أثر إيجابي في هذه الصراعات، بدليل هُزال ما قدّمته حرب "المشاغلة والإسناد" من جنوب لبنان لقضية غزّة، في مقابل خسائر مؤلمة للبنان واللبنانيين.
وإذا كانت هناك صعوبات أو موانع للخيار الأوّل نتيجة رفض مبدأ علمانية الدولة على النسق العالمي لأسباب دينية أو طائفية أو لعدم الاقتناع، فإن الخيار الثاني يقدّم آليّات مرِنة تسمح بتفتّح حقوق المكوّنات وحرّياتها وأنماط عيشها، بدون صدامات أو نزاعات بينيّة.
وفي الحقيقة، إن إحساس هذه المكوّنات بالأمان النفسي والاجتماعي والثقافي والاقتصادي يجعلها أشد انفتاحاً وتعاوناً في ما بينها، فتسقط خطوط الحذر والتماسّ والشكوك المتبادلة أمام حركة المصالح وتوازن الكرامة الإنسانية. وقليل من شجاعة الاعتراف يفتح العيون على أن العلاقة الراهنة بين البيئات السياسية والشعبية والأهلية ليست في أفضل أحوالها.
والتاريخ يعطي دروساً في انهيار الوحدات المفروضة بالقوة، سواءٌ في العالم العربي أو السوفياتي أو الشرق الأوروبي أو الشرق الأقصى أو في أفريقيا، وقد تشظّت وحدويات داخلية كثيرة تحت ضغط منطق القوة.
ولا يمكن أن يشذّ لبنان عن قاعدة رفض الفرض، فهو رفَض في مرحلة سابقة ما كان يعتبره "مارونية سياسية" متحكّمة برغم إنجازاتها، ثمّ تجربة "درزية سياسية" ولو قصيرة مع الكبير الراحل كمال جنبلاط بقيادته "الحركة الوطنية"، ثمّ "سنّية سياسية" مع الشهيد رفيق الحريري، والآن مع "الشيعية السياسية" بوجهها "الشيعوي العسكري" تحت قيادة "الحزب".
كما رفض انتدابات واحتلالات ووصايات وتخلّص منها تباعاً.
وقد آن أوان يقظة الوعي الوطني اللبناني لدى أهل الرهان على جعل لبنان "عملاق سلاح"، وكأنه دولة عظمى تتنكّب مسؤولية القضايا المزمنة وإسقاط النظام العالمي الأحاديّ القطب.
فقليل من التواضع وتبريد الرؤوس يُعيد الحسابات إلى دفتر الواقع، كي يُدرك الجميع أن الخروج من نفق الأزمة لا يكون بمزيد من الحفر فيه، وأن التورّط في صراعات كبرى كارثي على أهله قبل سواهم.
صحيح أن لبنان أصغر من أن يُقسَّم، لكنه ليس أكبر من حجم دولة محدودة الإمكانات والطاقات ويريدون لها أن تتنطّح لتغيير موازين القوى الإقليمية والدولية واستراتيجيات الأمم.
وإذا شاء هؤلاء أن يورّطوا لبنان في "صيغة الدولتين" فليستمرّوا في هذا النهج الاستعلائي عبر تعطيل المؤسسات بدءاً من رئاسة الجمهورية، وصولاً إلى رفض المساعي والأفكار الدولية لترتيب وضبط الحدود الجنوبية والشرقية والشمالية حفاظاً على سيادة لبنان واستقلاله واستقراره.
ويبقى السؤال:
أيّ دولة يريد هؤلاء بحدود مباحة للحروب ولكلّ انواع الموبقات، وبطموحات إلى لعب أدوار خيالية تفوق طاقتها !؟