لبنان

دريان في رسالة رمضان: للتوافق والتعاون للإستمرار في وطننا

دريان في رسالة رمضان: للتوافق والتعاون للإستمرار في وطننا

وجّه مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ عبد اللطيف دريان، رسالة إلى اللبنانيين لمناسبة حلول شهر رمضان المبارك، وقال: "الحمد لله الذي شرع لعباده الصيام، لتهذيب نفوسهم وتطهيرهم من الآثام، أحمده تعالى وهو المستحق للحمد ، وأشكره على نعمه التي تزيد عن العد. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له في عبادته، كما أنه لا شريك له في ملكه. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أتقى من صلى وصام وحج واعتمر، وأطاع ربه في السر والجهر، صلى الله عليه، وعلى آله وأصحابه، ومن سار على نهجه وتمسك بسنته إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا. وبعد : يقول المولى تعالى في محكم تنزيله :﴿شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون﴾ . صدق الله العظيم".

أضاف: "يهل علينا هلال شهر رمضان المبارك، ونحن مأمورون بصومه، وبالعيش فيه ومعه، باعتباره شهرا للعبادة والتوبة، والسلوك الخير، والعمل الصالح. يقدم علينا شهر رمضان كل عام خير مقدم. فالصوم فريضة في القرآن الكريم، بمقتضى قوله تعالى : ﴿يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون﴾. وهو عمل رسول الله، صلوات الله وسلامه عليه ، وحبه وأداؤه للطاعات، يدل على ذلك كثرة أحاديثه في الحث على أداء الفريضة ، وفي تبيان الفضائل الأخلاقية والإنسانية والاجتماعية لشهر رمضان وصومه . وإذا كانت الصلاة عماد الدين، والحج موطن اجتماع جماعة المسلمين؛ فإن الصوم - فضلا عن كونه عبادة رئيسة في الإسلام وشرائع الرسل والأنبياء ، فقد صار علما على الإسلام في العالم. لقد حدد الله سبحانه وتعالى لفرض الصوم ، وفي شهر رمضان بالذات ، سببين : الأول : أنه عبادة مفروضة علينا كما كتبت على الذين من قبلنا في سائر الشرائع . والسبب الثاني: أنه الشهر الذي أنزل فيه القرآن، قال تعالى : ﴿شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه﴾".

وتابع: "السبب الاول: تعليل تعبدي، ذو فضائل نفسية وخلقية واجتماعية. أما السبب الثاني فهو شكر وحمد لله سبحانه وتعالى على النعمة التي أسبغها علينا بإنزال القرآن، وبعثة خاتم النبيين محمد، صلوات الله وسلامه عليه. وقد قال سبحانه وتعالى: ﴿اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا﴾، وهذه الأمور الثلاثة: إكمال الدين، وإتمام النعمة، والرضا، هي مقتضى الرحمة الإلهية، التي وسعت كل شيء . قال تعالى: ﴿ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون﴾، وقال تعالى: ﴿ كتب ربكم على نفسه الرحمة﴾، فنحن في شهر رمضان، وفي كل شهر وعام، برحمة ونعمة وعناية من الله سبحانه وتعالى، الذي له الخلق والأمر. ثم إن شآبيب الرحمة والنعمة، والعناية المتنزلة على البشرية، المراد منها أن تتحول إلى أخلاق للأفراد وفضائل، يتعامل بها الناس فيما بينهم بالمعروف. ويبدو ذلك كله درسا تربويا عظيما في شهر رمضان، بالصوم والصدقة ورعاية الأهل والولد، والإقبال على فعل الخير للناس، ومع الناس، وبقدر الوسع والطاقة، فالله سبحانه وتعالى لا يكلف نفسا إلا وسعها. لكن الآية الكريمة تضيف: ﴿لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت﴾، وهذا هو التوازن الرائع، فيا أيها الإنسان المؤمن، بينك وبين الله عهد ووعد، وإن العهد كان مسؤولا، فما استطعت فافعل، انطلاقا من هذه المسؤولية، وهذه الأمانة التي تحملتها. واعلم أنه من مقتضيات المسؤولية أنه من يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره، وذلك لأن النفس الإنسانية العاقلة والعاملة، لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت".

وتابع دريان: "المؤمنون مسؤولون دائما بحكم العهد والميثاق الذي بينهم وبين الله تعالى، ومسؤولون بحكم الفطرة التي فطر الله الناس عليها. وهناك علامات ومناسبات للتذكير والتقدير، ورمضان صومه وعباداته هو أحد علامات وأعلام هذه المسؤولية الدينية والأخلاقية والإنسانية. والعلماء يقولون: إن الناس مسؤولون عن مصالح أو ضروريات خمس، هي النفس والعقل والدين والكرامة أو العرض، والملك أو المال. والنفس تعني الحياة بالطبع، كيف يعنى الإنسان بجسده وصحته، ومأكله ومشربه وأخلاقه. وكيف يعنى بعقله وفكره، وكيف يتدبر أموره، وكيف يحفظ عرضه أو كرامته أو سمعته. وكيف يحفظ دينه. ويحفظ كرامته من الظلم ورذائل الأخلاق".

وأشار إلى أن "كيف يكسب رزقه، وكيف ينفقه ويتصرف فيه. والمسؤولية فردية في الأساس، لأفراد أحرار، لكنها جماعية أيضا، لأن الإنسان يعيش في أسر ومجتمعات. وفضائل العقل والتعقل، والتدين والكرامة، إنما تصبح فضائل، أو تكون عندما تمارس مع الآخرين أو تجاههم. فالأخلاق تعني كما قال رسول الله صلوات الله وسلامه عليه: أن (تحب لأخيك ما تحب لنفسك)، وفي رواية عنه صلى الله عليه وسلم: (أحب للناس ما تحب لنفسك)، وهذا هو الميزان للأخلاق الفاضلة. فكما تحب لنفسك الصحة والمال ، وهناءة العيش، يكون عليك أن تعلم أن هذه الأمور لا تسلم لك، ولا تبقى إلا إذا بذلت وسعك لتكون لقرابتك وإخوانك ومجتمعك، والناس أجمعين".

وقال: "سيهل علينا هلال شهر رمضان المبارك، ونحن مأمورون بصومه، كونه شهرا للعبادة والتوبة، والسلوك الخير، والعمل الصالح. لكن شهر رمضان لا يحضر على الوتيرة نفسها هذا العام، بسبب العدوان الصهيوني على غزة وفلسطين وجنوب بلدنا الحبيب لبنان، وسقوط عشرات الألوف من الأطفال والنساء والشيوخ الذين يقتلون. ومع مشاهد القتل والمذابح في وسائل الإعلام والاتصال، تتصاعد أنات الجرحى والجوعى، والذين تهجروا مرتين أو ثلاثا خلال شهرين أو ثلاثة. فماذا بقي من النظام الدولي، ومن حماية المدنيين، ومن صنع السلام للمستضعفين، وسط صراع حيتان الدم والسلطان؟ إننا نناشد المجتمع العربي والدولي، وبخاصة جامعة الدول العربية، ومنظمة التعاون الإسلامي، ومجلس الأمن، وضع حد نهائي لمأساة الشعب الفلسطيني، وردع العدوان الصهيوني الذي يشن على أهل غزة وفلسطين وجنوب لبنان".

وأردف: "ما بدأت تحديات العيش والنظام في لبنان بحرب غزة. لكنها تعاظمت بعشرات القتلى، وبتهجير الناس من الجنوب اللبناني. لقد ظننا أن القرار الدولي رقم 1701 سيحمي لبنان، لكن ذلك لم يكن صحيحا لأن العدو الصهيوني لا يلتزمه، ويخالف كل القرارات الدولية بعدوانه على لبنان، ويقتل أبناءنا، ويدمر بيوتنا، فالاعتداء على أي منطقة في لبنان، هو اعتداء على كل لبنان، لا نفرق ولا نميز بين منطقة وأخرى، وما يحصل من عدوان على الجنوب، هو برسم صناع القرار في المجتمع الدولي، ولا حل للقضية الفلسطينية إلا بإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة الحرة، وعاصمتها القدس الشريف".

وأضاف: "لقد اشتد شوقنا لشهر رمضان، لأن الجميع يريدون التوصل إلى وقف القتل والقتال في رمضان، كأنما القتل حلال خارج رمضان وممنوع فيه، نعم لطالما كان رمضان شهرا للسلام والطمأنينة والأمن والأمان. هو شهر الرحمة والتراحم. ونحن نسأل لإخوتنا في غزة وفي فلسطين، وفي سائر ديار العرب والمسلمين، الكفاية بعد الجوع، والأمن بعد الخوف، في رمضان وفي غير رمضان. فمنذ مائة عام ما توقف القتل في فلسطين. ومنذ عقود وعقود، يتعرض الفلسطينيون للملاحقة والاضطهاد في صلواتهم في القدس والخليل، وها هي مساجدهم تهدم في غزة. وقد جاء في القرآن الكريم: ﴿لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين ﴾. لقد قوتل الفلسطينيون في دينهم وفي ديارهم، وهم لا يفعلون غير الدفاع بقدر الوسع والطاقة".

وتابع: "يحضر شهر رمضان هذا العام، فنتذكر آلام إخواننا كما نتذكر آلامنا نحن. وهي حاضرة لا تخفى على أحد إلا على سياسيينا ورجال المال والأعمال عندنا. منذ سنوات ما يزال السياسيون يمضغون الكلام بشأن جريمة المرفأ، واحتجاز أموال الناس في المصارف، والمؤسسات متهالكة، والهجرات متوالية، كأنما الوطن ينتهي، وتنتهي عهوده بالعزة والرفعة والمنعة والتقدم. إن أول الأمراض التي أصابتنا مرض فقدان المحاسبة. يستطيع كل أحد أن يفعل ما يشاء، ويظل آمنا وماضيا في عبثه، كأنما هو غير مسؤول أمام الله وأمام الناس".

وأشار إلى أن "لبنان في دائرة الخطر، والسبب الأول هو الشغور الرئاسي، فانتخاب رئيس للجمهورية، هو الخطوة الأولى نحو بناء الدولة ، والطريق الصحيح القويم، في تفعيل عمل مؤسسات الدولة المترهلة. مهما اختلفت الرؤى السياسية. علينا بالتوافق والتعاون للاستقرار والاستمرار في وطننا، الذي هو بحاجة إلينا جميعا لحسن إدارة البلد بهمة أبنائه، إن الأولوية المطلقة اليوم ، هي إجراء انتخاب رئيس للجمهورية، ولا يمكن أن نخرج من أزماتنا إلا بإنجاز هذا الاستحقاق، لنحافظ على وحدتنا الوطنية، فلبنان لا يعيش إلا بجناحيه، المسلم والمسيحي، ولا نرضى إلا بالمساواة التي نص عليها اتفاق الطائف، ولا يساس لبنان بمنطق الرابح والخاسر، أو القوي على الضعيف، بل كلنا أقوياء بكلمة الحق، ومنتصرون لوطننا ولشعبنا".

وقال: "من دار الفتوى، دار المسلمين واللبنانيين، نطالب الجميع بالتعالي والتنازلات المتبادلة، وتغليب المصلحة الوطنية العليا على ما دونها، لإنقاذ لبنان، وإلا الفوضى وشريعة الغاب، هما البديل إذا استمرت القوى السياسية بالتصلب والتعنت، علينا أن نتعاون مع الجهود الطيبة، والمساعي الخيرة، التي تقوم بها اللجنة الخماسية، في مساعدتنا لحل أولى أزماتنا، وهي انتخاب رئيس جامع، وتشكيل حكومة فاعلة، والبدء بالإصلاحات، ومعركة إنهاء الفساد المستشري، ولا خلاص للبنان، إلا بصدق النية والعزيمة والإرادة، والعمل الجدي، في ترتيب أولوياتنا، كي لا نقع في فخ المحظور الذي بانتظارنا، إذا لم نسارع إلى اتخاذ خطوات تريح وطننا من المعاناة التي نعيشها. ونحن مع شعبنا وناسنا في آلامهم وحاجاتهم في هذا الشهر المبارك، ولن نتخلى عنهم، وسنبقى إلى جانبهم في هذه الظروف الصعبة التي تمر عليهم. وعلى القادرين أن يقدموا ما استطاعوا إلى أهلنا وأبنائنا أصحاب الحاجة، وخصوصا المتعففين منهم، فشهر رمضان، هو شهر العطاء، وأي عطاء أهم وأكرم من هذه الأيام المباركة، تصديقا لقوله عليه الصلاة والسلام: (أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس)".

وأضاف: "إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون. ففي الوقت الذي تشتد فيه الأزمات، ويتخلى كثيرون عن مسؤولياتهم، أريد أن أشيد بإخوان فضلاء ونبلاء، يحسون بحاجات الناس، ويتقدمون للمؤسسات الاجتماعية والدينية بالصدقات والعطاءات. لقد اعتدنا نحن المسلمين أن نزكي في شهر رمضان، وهي عادة حميدة، صارت متجذرة في مجتمعنا، وتزيدنا ثقة بقدرة أجيالنا على الصمود، وشبابنا على الاعتبار والوفاء. إن الذي أريد قوله: إن الأزمة السياسية، أو الأزمات السياسية المتفاقمة، لا ينبغي أن تلهينا عن وجود هذه النخبة الفاضلة، التي اعتنقت مكارم الأخلاق، وأقبلت على إنقاذ المؤسسات، وصنع البناء المقدر فيها. نعم، هناك إقبال على عمل الخير من جانب أفراد وجماعات في سائر أنحاء لبنان. وهذه ظاهرة واعدة ومبشرة".

وتابع: "تذكرون حديث السفينة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بشأن المسؤولية . يقول رسول الله: مثل القائم على حدود الله والواقع فيها ، كمثل قوم استهموا على سفينة ، فأصاب بعضهم أعلاها ، وأصاب بعضهم أسفلها . فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء ، مروا على من فوقهم ، فقالوا : لو أنا خرقنا في نصیبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا . فإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا ، وإن تركوهم وما أرادوا ، هلكوا وهلكوا جميعا. السفينة في كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، رمز للمجتمع، ورمز للعالم المترابط، فإذا ظهر الشذوذ والفساد، يكون على البقية الصالحة في المجتمع، أن تتدخل وتصحح، وتمنع من استمرار العبث، أو يتضرر الجميع. إن هذا هو ما تفعله النخبة الفاضلة، المقبلة على أداء الواجب. وما تطلبه، أن تحرص الجماعة على مكافحة تيارات الفساد والإفساد".

وختم دريان: "أتى رمضان ، وقد تعودنا منه وفيه أن يكون شهرا للخير والاعتدال والسلام والتضامن. فاللهم يا غفور يا رحيم، بفضل رمضان وعباداتنا فيه، أنقذ أطفالنا ونساءنا وكبارنا من القتل، وديارنا من الخراب، وعالم البشر من شرور الحروب والمجاعات، وفساد شذاذ الآفاق، واجعل لنا ولوطننا وشعبنا مخرجا من هذا الكرب المخيم. اللهم إننا ندعوك سبحانك مع قدوم شهر رمضان، شهر الرحمة وعمل الخير واستجابة الدعاء، أن تجبر ضعفنا، وترحم أطفالنا ونساءنا وكبارنا من أهوال الفتن والحروب، وأن تهب أوطاننا السلم والأمن والأمان، وأن تخرجنا من هذه المحن المستعصية، وأن تهب وطننا السكينة والطمأننة، إنك يا رب العالمين حكيم قدير. قال تعالى: ﴿الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون﴾، وقال تعالى : ﴿إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا، تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا، وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون﴾ ، صدق الله العظيم . أسأل الله سبحانه، أن يجعله صوما متقبلا، حافلا بالأعمال الصالحة، وبنعم الله ورضاه. كل شهر رمضان وأنتم بخير".

يقرأون الآن