شغل الكذب الفلاسفة على مر العصور، ومن خلال بحثهم المستمر عن الحقيقة بأوجهها المتعددة، شغلوا بالكذب أيضا كرذيلة حُذّر منها الإنسان. وعلى الرغم من ذلك لم يكُفَّ البشر عن إطلاق أكاذيبهم، سواء كانت مما يطلقون عليها أكاذيب بيضاء بغرض المزاح، أو تلك الأكاذيب الثقيلة التي أثرت بالفعل في التاريخ وأفسد بعضها حياة البشر. إليكم أبرز الكذبات في التاريخ:
يوم الحمقى أو كما يعرف في العربية بكذبة نيسان/ أبريل، هو الآخر مليء بالأكاذيب، بما يليق بهذا اليوم. في سلسلة طويلة من الأكاذيب، هناك العديد من الافتراضات حول الأصل التاريخي لكذبة أبريل بلا أدلة قوية على صحة أي من هذه الافتراضات.
يُرجع بعض المؤرخين أصل هذا اليوم إلى عام 1582، عند تحول فرنسا من التقويم اليولياني إلى التقويم الغريغوري وفقا لتوصية البابا غريغوري الثالث عشر عام 1563، وقد كان العام الجديد في التقويم اليولياني الذي تغير يبدأ مع الاعتدال الربيعي في حوالي 1نيسان/أبريل، ولأن بعض الأشخاص لم يعرفوا بتغير التقويم وانتقال بداية العام الجديد إلى الأول من كانون الثاني/يناير، فقد احتفلوا كعادتهم ببداية العام الجديد في الأول من أبريل، وهو ما جعلهم موضعا للسخرية، وأُطلق عليهم “حمقى أبريل (april fools)”.
كذبة أبريل الأولى
أما أول الأكاذيب الموثقة في نيسان/أبريل فيعود تاريخها إلى عام 1698، وتحديدا في لندن حين أُعلن للجماهير أنهم مدعوون لمشاهدة الحفل السنوي لغسل الأسود في برج لندن مقابل دفع ثمن التذكرة، وبالفعل دفع العديد من الأشخاص ثمن التذاكر، ولكنهم مع الأسف ذهبوا إلى البرج ولم يجدوا ولو أسدا واحدا بانتظارهم.
شجرة السباغيتي والبطاريق الطائرة
أيا كان أصل ذلك اليوم فقد تحول بمرور الزمن إلى احتفاء سنوي متجدد بالمقالب، أو بما يسمى الكذبات البيضاء والتي يفترض أنها لا تضر أحدا. وصارت الوكالات الإعلامية في العصر الحديث تتسابق على إطلاق كذبات متقنة في الأول من نيسان/أبريل من كل عام.
لعل أكثرها شهرة كذبة البي بي سي في الأول من نيسان/أبريل عام 1957، حين نشر “ريتشارد ديمبلي” خبرا في البي بي سي حول وفرة محصول السباغيتي في سويسرا لذلك الموسم. وهو المقلب الذي وقع ضحيته آلاف المتابعين والمشاهدين، حتى إن بعض المشاهدين اتصلوا للسؤال عن طريقة زراعة أشجار السباغيتي بمنتهى الجدية.
وفي عام 1976 أعلن الفلكي البارز “باتريك مور” عبر إذاعة “بي بي سي” راديو أننا في الساعة 9.47 صباحا سنشعر بما وصفه بـ “تأثير جاذبية مزدوج من كوكبي زحل وبلوتو”، وقال إنه في لحظة معينة سيصطف الكوكبان في خط واحد وستصبح الجاذبية على الأرض أضعف، فإذا قفزت في الهواء في التوقيت الصحيح، فإنك تقريبا تطفو فوق الهواء. ورغم انعدام المنطق في ذلك الإعلان، فإن الصبغة العلمية الزائفة جعلت الخدعة تنطلي على الكثير من المتابعين، وإلى الآن ما زالت هذه الخدعة منتشرة حتى في الوطن العربي.
لم تسلم ساعة “بيغ بين” الشهيرة من كذبة أبريل، ففي أبريل عام 1980 أعلنت “بي بي سي” لمستمعيها أن ساعة بيغ بن ستدخل العصر الرقمي، وأشارت إلى أن أول من سيتصل من المستمعين يمكن أن يحصل على عقارب الساعة التي سيتم الاستغناء عنها. وفي نيسان/أبريل من عام 2008، نشرت بي بي سي خبرا عن اكتشاف سلالة من طيور البطريق القابلة للطيران، وبثت مقطع فيديو مزيفا حظي بأكثر من 6 ملايين مشاهدة.
أكاذيب علمية: إنسان بلتداون
كل ما سبق يمكن أن يطلق عليه أكاذيب بيضاء، ومقالب ساخرة هدفها الأساسي هو إضحاك الآخرين، بعد الضحك عليهم. إلا أن التاريخ الإنساني شهد أيضا العديد من الكذبات التي لم تكن بمثل هذا المرح، بعضها قلب التاريخ رأسا على عقب، والبعض الآخر أدى إلى خسارة العديد من الأرواح.
عرف البحث العلمي مثلا مجموعة كبيرة من الأكاذيب والاحتيالات، لكن تبقى أشهرها كذبة “إنسان بلتداون (Piltdown Man)”، والتي لم يتم الكشف عنها قبل مرور 40 عاما كاملة. في عام 1912 أعلن “آرثر سميث” و”ودوارد” من متحف التاريخ الطبيعي أن تشارلز داوسون، وهو محامٍ وعالم آثار هاوٍ اكتشف أجزاءً من جمجمة بشرية وعظام فك يُقدّر بأن عمرها نحو 500 ألف عام في أحد مناجم بلتداون شرق ساسكس في إنكلترا. وقد اعتُقد أن هذه البقايا تعود للإنسان الأول، واعتُبرت بمثابة حلقة وصل في إثبات صحة نظرية التطور.
ولم يتم اكتشاف زيف هذه القطع قبل عام 1953. كانت عملية التزييف دقيقة، حتى إنها لم تكتشف إلا مع تطور وسائل الكشف الحديثة عن الحفريات، مثل “فحص الفلور (fluorine absorption test)” وأشعة “إكس راي” و”الآزوت” السائل، والتي كشفت أن الفك السفلي يعود لقرد الأورانغوتان، ويصل عمره إلى نحو 500 عام، بينما تعود بقايا الجمجمة لجمجمة إنسان لا يتجاوز عمرها 620 عاما. وقد زُيّفت القطع عن عمد عبر تلطيخها بثنائي كرومات البوتاسيوم لإكسابها مظهر القدم. كما تبين أن الأسنان بشرية وتم غرسها في فك القرد، وبردها، وأظهر الفحص آثار الخدوش الناتجة عن ذلك على الأسنان. ليتغير اسمه إلى “إنسان بلتداون المزيف (Piltdown man hoax)”.
وأكاذيب حول اللقاحات
كان الدكتور آندرو وايكفيلد أول طبيب يقترح وجود صلة بين التوحد عند الأطفال والتطعيم الثلاثي للحصبة والنكاف والحصبة الألمانية المعروف باسم MMR.
لم نبتعد كثيرا عن الجدل الدائر حول أضرار اللقاحات الخاصة بفيروس كورونا المستجد، ونظريات التآمر التي أطلقها الكثيرون. في الواقع، هذا الجدل حول اللقاحات قديم، ويرجع إلى تسعينيات القرن العشرين، وتحديدا عام 1998 حينما نشرت مجلة “ذي لانسيت” العلمية دراسة أجراها الطبيب د. “آندرو وايكفيلد”، ربطت بين ظهور أعراض التوحّد على الأطفال واللقاح الثلاثي الخاص بالحصبة والنُّكاف والحصبة الألمانية. لم تشمل العينة التي أُجريت عليها الدراسة سوى 12 طفلا.
سرعان ما نالت هذه الدراسة شهرة إعلامية واسعة، وتناقصت معدلات حصول الأطفال على اللقاح إلى أقل من 50% في المملكة المتحدة. وخلال 15 عاما من نشر هذه الدراسة قُدِّرت الأعداد بـ10 آلاف حالة حصبة كان من الممكن وقايتها، بعضها كان مصحوبا بآثار طويلة الأمد، لكن بمرور الوقت كُشف عن وجود العديد من الأخطاء في هذه الدراسة، ووُجدت أدلة على تحريف “وايكفيلد” للبيانات الصحية للأطفال -موضوع العينة- لصالح استنتاجاته. وقد أعلنت مجلة “ذي لانسيت” سحب هذه الدراسة بصورة رسمية في عام 2010. وفي مايو/أيار 2010، أصدر “المجلس الطبي العام” في بريطانيا قرارا بوقف “وايكفيلد” عن ممارسة الطب في بريطانيا.
كارثة تشرنوبل
في 26 نيسان/أبريل 1986، أدى انفجار محطة للطاقة النووية في تشرنوبل بأوكرانيا إلى تعريض ملايين الأشخاص الذين يعيشون في اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية للإشعاع، حيث أدى الانفجار إلى إطلاق إشعاعات تزيد بما قُدِّر بأكثر من 400 ضعف ما نتج عن القنبلة الذرية التي ألقتها الولايات المتحدة الأميركية على هيروشيما.
استغرق الأمر السلطات السوفيتية وقتها يوما كاملا بعد الحادث قبل أن تبدأ في إجلاء السكان من المدن المجاورة، لكن الأسوأ كان صمتهم بشأن العواقب. وقد استغرق الأمر 18 يوما كاملة قبل أن يعترف “ميخائيل غورباتشوف”، السكرتير العام للحزب الشيوعي للاتحاد السوفيتي آنذاك، بأثر الانفجار. كانت هذه هي أسوأ كارثة نووية وبيئية في تاريخ الإنسانية. وفق التقارير الرسمية، تُوفّي في الأسابيع الأولى حوالي 30 عاملا، أغلبهم من رجال الإطفاء، كما تعرض نحو 600 ألف شخص ممن شاركوا في عمليات الإخلاء والإطفاء للإشعاع بأشكال مختلفة. وخلال عام 1986، أُخلي أكثر من 115 ألف شخص من منازلهم. كما تعرّض أكثر من 8 ملايين شخص في بيلاروسيا وروسيا وأوكرانيا للإشعاع بدرجاته المختلفة، وتلوّثت مساحة تبلغ نحو 155 ألف كيلومتر مربع من الأراضي.