لا تستقر أرقام الخسائر اللاحقة بالإقتصاد اللبناني، جراء المواجهات العسكرية المحتدمة على جبهة الجنوب والمخاوف المستمرة من توسعها تبعًا لتطورات حرب غزّة، في وقت تتزايد يوميًا بشكل تراكمي حصيلة أعداد القتلى والجرحى والمهجرين من بيوتهم وتهديم المساكن والأضرار الجسيمة المتوالية على مفاصل الحياة اليومية والقطاعات الإقتصادية والإنتاجية.
وأشار مسؤول مالي كبير لـ"الشرق الأوسط" إلى أن لبنان خسر فرصة ثمينة لاستعادة مسار النمو الإيجابي في بيانات الناتج المحلي بعد 4 سنوات متتالية من نسب الإنكماش الحاد، والتي أفضت إلى تقلص تاريخي وسريع في حجمه ليقترب من عتبة 20 مليار دولار، نزولًا من نحو 55 مليار دولار.
ولاحت بالفعل بشائر هذا التحول الواعد قبيل اندلاع حرب غزة في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، وتمددها السريع في اليوم التالي إلى الحدود الجنوبية، لتطيح مباشرةً بمجموعة من المؤشرات الواعدة بإمكانية إعادة الناتج المحلي إلى مسار النمو الإيجابي، ولو بنسب متدنية، والتأسيس لنهوض إقتصادي أوسع نطاقًا فور إبرام إتفاق نهائي مع صندوق النقد الدولي.
وإلى جانب الهبوط الحاد في مجمل مؤشرات القطاع السياحي بكل مكوناته، بعدما حمل راية النهوض النسبي بزخمٍ إستثنائي خلال الموسم الصيفي السابق، وأتاح تدفق نحو 5 مليارات دولار كحصيلة سنوية تراكمية قبل اندلاع الحرب، يخشى أن تتمدّد التداعيات المتفاقمة إلى زعزعة الإستقرار النقدي الساري للشهر الثامن على التوالي، ومن ثم الحؤول دون نجاح السلطة النقدية بتحويله من طارئ مشكوك بفاعليته إلى مستدام يسري كسعر موحد على ميزانية "المركزي" وميزانيات القطاع المالي.
وبالفعل، لوحظ أن تقنين التدفقات الدولارية ساهم تلقائيًا بالحدّ من وتيرة جهود البنك المركزي في مهمة إعادة تعزيز احتياطه بالعملات الصعبة، بعدما نجح في زيادته بما يتعدى مليار دولار خلال الأشهر التي تلت إستلام وسيم منصوري لمهام الحاكمية خلفًا لسلفه رياض سلامة بدءًا من شهر آب/ أغسطس الماضي، وقراره الفوري بحجب أي تمويل جديد من الإحتياط لصالح الدولة.
تداعيات الأزمة السياسية
ورغم ارتكاز هذا التعافي على مؤشرات رقمية لا تمنحه صفة الإستدامة، حسب وصف مؤسسات مالية دولية، يؤكد المسؤول المالي أن استعادة النمو الإيجابي للناتج المحلي تمثل بذاتها قيمة مضافة للدفع باتجاه التقدم في المسار السياسي العالق عند الفراغ الرئاسي واقتصار المهام الحكومية على تصريف الأعمال بالحدود الدنيا، واستطرادًا الشروع باستكمال الإستجابة للشروط الإصلاحية التي أدرجها الصندوق في الإتفاق الأولي.
ومع استمرار تغييب لبنان واقتصاده عن الترقبات الدورية الصادرة عن صندوق النقد والتي جرى تعميمها هذا الأسبوع خلال اجتماعات الربيع مع البنك الدولي، وصفت منظمة "الإسكوا"، التعافي الجزئي المحقق بالنموّ المدفوع بالإستهلاك، وهو ما يزيد اعتماد الإقتصاد اللبناني على التدفقات الخارجية ويعزّز قطاعات الخدمات الهشّة مثل السياحة، بدلًا من أن يكون تعافيًا قويًّا يستند إلى تحسين القدرات الإنتاجية وزيادة فرص العمل.
ثغرة بنيوية
وأشارت إلى ثغرة بنيوية تحول دون اكتمال التعافي مستقبلًا، وهي تكمن في تواصل هجرة الأدمغة التي تقلّص حجم القوى العاملة، في حين أن الأزمة والأحداث التي تلتها ضاعفت من حجم التحديات التي تواجه عمل الشركات في القطاع الخاص، علمًا أن الجمود السياسي يؤدي إلى تعليق تنفيذ مشاريع الإستثمارات العامة، ولا سيما أن الإنفاق الحكومي محدود ولا يغطي سوى بنود أساسية، منها رواتب القطاع العام، ودعم محدود لبعض السلع الحيوية كأدوية السرطان والأمراض المزمنة.
وفي تحديثٍ لمعطيات قطاعية تتعلّق بتداعيات الحرب على القطاع الزراعي تحديدًا، فقد تسبّبت بالفعل وفق تقرير للبنك الدولي، ولا تزال، بأضرار جسيمة في البنية التحتيّة؛ إذ يتم حرق وتلويث جزء كبير من الأراضي الزراعيّة، علمًا أنّ حصة الجنوب تبلغ نحو 20 في المئة من الأراضي المزروعة في لبنان. كذلك تمّ رصد الأثر الأكبر على زراعة الزيتون التي تمثل 7 في المئة من إجمالي الإنتاج الزراعي في البلد؛ إذ لحق الضرر بنحو 100 ألف متر مربع من بساتين الزيتون.
تقديرات البنك الدولي
من جهته، يتوقع البنك الدولي في أحدث تقاريره، أن تسجّل البلاد نموًّا اقتصاديًّا بنسبة 0.5 في المئة خلال العام الحالي، انطلاقًا من انكماش بنسبة 0.2 في المئة العام الماضي، و0.6 في المئة في عام 2022. ومن المتوقع أيضًا أن يتحسّن متوسّط نموّ الناتج المحلّي الإجمالي الحقيقي للفرد الواحد من 1.2 في المئة في عام 2022 إلى 2.4 في المئة في عام 2023، و3.1 في المئة في عام 2024.
وبينما عمدت الحكومة السابقة في ربيع عام 2020 إلى إشهار الإمتناع عن دفع مستحقات فوائد وأصول سندات الدين الدولية (يوروبوندز)، والبالغة حينها نحو 30 مليار دولار، توقّع البنك الدولي أنّ يظلّ عجز الحساب الجاري للموازنة العامة مرتفعًا عند 10.4 في المئة من الناتج المحلّي الإجمالي مقارنةً بنسبة 11 في المئة في عام 2023، و32.7 في المئة في عام 2022، علمًا أن لبنان يعاني أصلًا من ارتفاع نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي قبل الأزمة؛ إذ وصلت النسبة إلى 155 في المئة بنهاية عام 2018، ثم ارتفعت خلال الفترة الممتدّة بين عامَي 2020 و2023 لتبلغ 201 في المئة.