برزت جنوبي العراق حركة تطلق على نفسها جماعة "القربان"، فهي تتخذ "التضحية البشرية" وسيلة للتقرب من الإمام علي بن أبي طالب الذين يضعونه بمنزلة "إِلَه" في حين أن العقيدة الإسلامية الشيعية والسنية ترفض ما تقدم، وتقول إنها قائمة بالأساس على توحيد الله الخالق وعدم إشراك أي ذوات أخرى في هذه الربوبية.
وعلى مرّ تاريخ البشرية، هناك دائماً انشقاقات أو تطورات تظهر منبثقة من عقيدة ما "سماوية - إبراهيمية" كانت أم أرضية، وكثيرة هي الأحزاب السياسية التي تفرعت إلى جناحين أو أكثر، إلا أن الأديان هي من شهدت أكثر تحولات وتغيرات في تاريخها، وعادة ما تكون الحركات الوليدة مثيرة للانتباه، إلا أن بعضها تخبو سريعاً، وأخرى تحافظ على بقائها وتتوسع أو تبقى محدودة، غير أن هناك ما تتحول فور ظهورها إلى ظاهرة لا يمكن التغاضي عنها، خاصة إذا ما كانت عقيدتها قائمة على إنهاء حياة معتنقيها.
الانتحار قرباناً
وتعد جماعة "القربان" التي برزت أخبارها في جنوب العراق عام 2023 من أغرب الجماعات، حيث أن معتنقيها يرون أن التضحية بأنفسهم عبر "الانتحار" يجعلهم "قرباناً" للتقرب من "ربهم"، ولذلك يجرون قرعة فيما بينهم ومن يظهر اسمه في القرعة يبادر إلى الانتحار الطوعي، غير أن أحدهم على ما يبدو خذلته الشجاعة ولم يستطع إنهاء حياته طوعياً، مما دفع المؤمنين بهذه العقيدة على تقييد يديه وإجباره على الانتحار، بحسب ما أبلغ مصدر أمني وكالة شفق نيوز.
وظهرت جماعة "القربان" فجأة في محافظة ذي قار جنوبي العراق في العام 2023، وتحديداً خلال شهر عاشوراء التي يحيي فيها الشيعة ذكرى معركة الطف التي جرت بكربلاء قبل 1400 عام، وتم فيها قتل الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب ومن معه من أخوته وأبنائه وأقاربه وأنصاره من قبل جيش يزيد بن معاوية، وفي حينها أبلغ مصدر أمني وكالة شفق نيوز بأن أحد الأشخاص قام بالانتحار شنقاً داخل أحد المواكب الحسينية في محافظة ذي قار (المواكب هي محطات استراحة تطوعية يتم فيها تقديم الخدمات للزائرين المتوجهين سيراً على الأقدام إلى محافظة كربلاء حيث مرقد الإمام الحسين لأداء طقوس الزيارة).
ووفقاً للمصدر الأمني فإن المنتحر هو عضو في جماعة "القربان" التي ظهر اسمها في ذلك الحين، ولاحقاً بدأت حالات الانتحار المنسوبة لأعضاء هذه الجماعة تتوالى، ما دفع وزارة الداخلية وجهاز الأمن الوطني وجهات أمنية ودينية واجتماعية إلى متابعة الأمر للوقوف على حقيقته.
انتحار بالعشرات وملاحقات أمنية
ويقول مدير منظمة "التواصل والإخاء" الاجتماعية، علي الناشي، لوكالة شفق نيوز بأن منظمته سجلت خلال الربع الأول من العام 2023، أكثر من 24 حالة انتحار انتهت بوفاة أصحابها في مدينة الناصرية وضواحيها، فيما تم تسجيل العشرات من الحالات غير المكتملة.
وأكد أن "هذا العدد من حالات الانتحار يشكل رقماً كبيراً مقارنة بالأعوام الماضية"، مشيراً إلى تسجيل العديد من الحوادث الجنائية على أنها حالات انتحار وخاصة من جانب النساء.
وفي شهر آيار/ مايو 2023، أعلنت وكالة الاستخبارات والتحقيقات في وزارة الداخلية العراقية عن إلقاء القبض على أربعة أشخاص في قضاء سوق الشيوخ في محافظة ذي قار، متهمين بالانضمام إلى جماعة "القربان"، مبينة أنها اتخذت الإجراءات القانونية بحقهم وإحالتهم إلى الجهات المختصة لاستكمال التحقيقات معهم.
يشار إلى أن جماعة "القربان" ظهرت للمرة الأولى في تسعينيات القرن المنصرم، وتحديداً في حياة المرجع الديني الراحل محمد محمد صادق الصدر، وقد تبرأ منهم في حينها، إلا أنها عاودت الظهور مجدداً خلال العامين الماضي والحالي.
وخلال شهر نيسان/ أبريل الجاري، عاد نشاط الحركة للظهور مجدداً، إذ تم تسجيل حالات الانتحار لأنصارها في قضاء سوق الشيوخ (المعقل الرئيسي للجماعة) جنوبي مدينة الناصرية مركز المحافظة.
تعاليم وطقوس خاصة
وكشف مصدر مطلع عن مراسم الحركة قبل تنفيذ أي عملية الانتحار لأعضائها، مؤكداً أن لديهم كتاباً يستمدون منه تعاليمهم الدينية.
وذكر المصدر أن "الكتاب بعنوان (أنا أنا أنا) وشعارهم (من يمت يرني)"، لافتاً إلى أن "الكتاب يتم تداوله فقط عبر قنوات خاصة على تطبيق التلغرام، حيث أن علاقات أنصار الجماعة محدودة بحلقات صغيرة للغاية تتواصل فيما بينها إلكترونياً".
وتابع "قبل كل عملية انتحار تجرى يتم إحضار شموع وأزهار القداح، فضلاً عن قراءة بعض الأعمال الخاصة بهم، ثم يتم تكليف الشخص المنتحر بإتمام العملية قرباناً للإمام علي بن أبي طالب، وتحت إشراف بعض العناصر الخاصة بهم، وطرق الانتحار أما برمي الجسد من شاهق أو شنقاً".
وتقول القوات الأمنية إنها نفذت حملات دهم وتفتيش في بعض مناطق قضاء سوق الشيوخ جنوبي محافظة ذي قار، لغرض اعتقال قيادات بارزين في الجماعة المنحرفة.
وأبلغ المصدر وكالة شفق نيوز، أن "القوات الأمنية نجحت باعتقال أربعة من قيادات الجماعة البارزين الذين أشرفوا على تنفيذ آخر عملية انتحار لأحد عناصر الجماعة، فيما تلاحق آخرين مشتركين بالعملية"، مبيناً أنه "تم إجراء كشف الدلالة للمعتقلين الأربعة".
وأوضح أن "قاضي التحقيق المختص قرر توقيف المتهمين على ذمة التحقيق وفق أحكام المادة 405 من قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969 المعدل".
وحاولت شفق نيوز التواصل مع الجهات الرسمية في ديوان محافظة ذي قار لغرض الاستيضاح حول آخر تطورات الموقف بشأن أنصار الجماعة، لكن دون جدوى.
بدوره يوضح الباحث في الشؤون الإسلامية والمذهبية رشيد السراي، لوكالة شفق نيوز، أنه "لا توجد في التاريخ الشيعي ولا المعتقدات الشيعية للطوائف والفرق كافة التي خرجت من تحت عباءة التشيع وانحرفت عنه جزئياً أو كلياً، أي معتقد من هذا النوع وهو القول بتقديم قرابين للإمام علي بطريقة الانتحار، فحتى أكثر الفرق تطرفاً وهم العلاهية (العلي إلهية) والنصيرية لا يوجد في معتقدهم هذا الأسلوب".
ويشدد على أنها "فكرة شاذة جديدة ناتجة عن خلطة بين الأديان والمعتقدات في محاولة لإقناع الشباب بها للأسف عبر أساليب خاصة ولذا ينبغي التصدي لها بقوة خصوصاً مع استمرار تكررها ومع شهود حالات مماثلة لها كما في انتحار شاب في لبنان قبل عام تقريباً".
تجدر الإشارة إلى أن بعض الأديان والمعتقدات تؤمن بـ"التضحية بالنفس" في سبيل الإله أو العقيدة التي تؤمن بها، وبهذا الصدد يقول الباحث في تاريخ الأديان عباس شمس الدين، إن "جماعة القربان وفرق انتحارية أجنبية تؤمن بحلول ما تسميه القيامة الفورية مثل جماعة جونز، أو جماعة ديفيد كوريش، إذ تعتبر جماعة القربان الانتحار تضحية بالنفس قرباناً للإمام علي الذي تؤمن بألوهيته".
ويؤكد شمس الدين أن "جميع فرق الغلاة المؤلهة لأشخاص كعلي بن أبي طالب أو لأحد من ولده أو كالراوندية المؤلهة لأبي جعفر المنصور أو أي طائفة من طوائف المسيحيين لم تتبنّ فعل الانتحار، بخلاف ما يُنشر عن جماعة القربان".
وفي حزيران/ يونيو 2023 سجلت العاصمة اللبنانية بيروت حالة انتحار شاب اسمه "علي فرحات" في منطقة حارة حريك في الضاحية الجنوبية لبيروت، وذلك بعدما رمى بنفسه من الطابق الثالث وهو عارٍ، والذي وصل إلى لبنان قادماً من كندا حيث يقيم هو وزوجته وطفلهما، وبعد ساعات من انتحاره قامت زوجته فاطمة فخر الدين، بالانتحار بنفس الطريقة وهي عارية أيضاً، مما جعل البعض يربط بينهما وبين جماعة "القربان".