من المتوقع أن يكون الوضع السياسي الحساس الذي جرت فيه زيارة رئيس إقليم كردستان مؤشرا قويا لاستعادة مسار تطوير العلاقات السياسية والاقتصادية والثقافية المتنوعة في الحاضر والمستقبل. كون المنطقة حاليا بحاجة أكثر من أي وقت مضى للعمل معا لبناء علاقات أوثق بين الجيران، وخاصة بين الدول الثلاث إيران وتركيا والعراق، هذه الدول التي من خلال سعيها للمزيد من بناء علاقاتها وتفاهماتها مع حالة "لا دولة" مستقرة ودستورية مثل إقليم كردستان، تضع خطواتها على خط المنافسة، وتجمعهم في الوقت نفسه بأسلوب سياسي بعيد النظر.
على هامش حرب غزة وتبعاتها الخطيرة التي امتدت بشكل مباشر إلى العالم رمته بصورة عامة وانتشرت شرارتها الحارقة الى دول المنطقة، فإن تبني سياسة التكيف والتقارب السلمي، أصبحت استراتيجية وضرورة حيوية ليس فقط بالنسبة للكرد في إقليم كردستان، بل لجميع الدول والشعوب الاخرى المجاورة لهم.
الدور الكردي البارز في المنطقة
ان الحصول على الدعم الدولي لاقليم كردستان، بعد 2005 حيث ركزت السياسة الخارجية الاميركية ورمت بثقلها على العراق والشرق الاوسط، اصبحت سببا لان يلعب الكرد في جنوب كردستان دورا فعالا وكبيرا في معادلات المنطقة، وخصوصا انه جاء متزامنا مع انفتاح الفضاء السياسي التركي على كرد الشمال وابقاء الباب المساعدات مفتوحا امام الجانب الاقتصادي والفرص الدبلوماسية والمرور من قبل ايران، والمشاركة النشطة والجليلة لقوات البيشمركة في الحرب العالمية ضد الارهاب، كل ذلك تمخض عن نتائج جعلت من كردستان عاملا شبه دولي (يشبه الدولة او قريبا من كونها دولة) مؤثرا بشكل مباشر على شكل صياغة خارطة السياسة الاقليمية، وخصوصا السياسة والاستراتيجية في الدول الاربع التي يخضع الكرد لحكمها.
ان زيارة السيد نيجيرفان بارزاني رئيس الاقليم الى بغداد وبعدها زيارة الرئيس التركي رجب طيب اردوغان الى بغداد وبعدها الى اربيل واجتماعه مع الزعيم الكردي السيد مسعود بارزاني والسيد رئيس الاقليم والسيد رئيس وزراء الاقليم، وبعدها مباشرة بوقت قصير زيارة رئيس الاقليم الى طهران عاصمة الجمهورية الاسلامية الايرانية، ولقاءاته مع المرشد ورئيس الجمهورية ورئيس البرلمان الايراني، فضلا عن اجتماعه مع وزير خارجيتها وعدد من كبار المسؤولين فيها، كل ذلك اثبت ان النظام السياسي في هاتين الدولتين الكبيرتين في المنطقة قبلتا بإقليم كردستان كجزء من نظام العلاقات الاقليمية والدولية، الامر الذي يفتح وضعا مختلفا وعهدا جديدا امام الكرد ولسياسة القوى الاقليمية برمتها ونظرتها للعالم، بحيث اعطي الاقليم مكانا في نادي السياسة والسلطة ورسم خريطة طريقة حكم المنطقة.
الخارطة الجيوسياسية التي تحيط بكردستان
ومن المرجح أن تفسر نتائج الزيارة على أن الخارطة الجيوسياسية التي تحيط بالاقليم، لم تعد ذات أربعة جدران وباب واحد، ولكن وفقا للأهداف الدبلوماسية لرئيس حكومة إقليم كردستان والاستراتيجية الجديدة التي يدعمها الحزب الديمقراطي الكردستاني والتي من الممكن ان يكون لكل جدار معبر وبوابة واضحة للسلم والعمل المشترك والسيادة المشتركة. وهذا يمكن أن يكون هو الجواب على السؤال التاريخي حول ما إذا كانت الدبلوماسية الكردية قد وصلت الى مرحلة يمكنها فيها فتح بوابة لجبروت الجيوسياسة من خلال التسامح والمصالح المشتركة بدلا من الشقوق والنوافذ والتكتيكات العمياء لتسلل المفارز.
والآن تخلى الكرد عن علاقاتهم المناطقية والمربعة والمستطيلة ويتحركون في مركز العلاقات الإقليمية والعالمية، سواء كاقليم يدير نفسه غير معترف بها كدولة أو كقضية تاريخية بحكم الأمر الواقع لها دور وتأثير في تشكيل الخريطة السياسية. ورغم أن القضية الكردية كانت دائما محور الصراع في الماضي، إلا أن هناك بوادر واضحة للتغيير من الخارج إلى مركز بناء واستقرار، يعمل على الأمن الاقتصادي والأمن الجغرافي والاجتماعي والغنى الثقافي للدول الاربع تركيا وإيران والعراق وسوريا.
للوهلة الأولى يلاحظ بان جولة زيارة السيد نيجيرفان بارزاني ستكون سببا، لتوفير الفرص والمصالح واعادة صياغتها بشكل جديد، بدلا من استمرار جمود المشكلات والصراعات بين الجمهورية الاسلامية واقليم كردستان.
التغيرات السياسية والأمنية والاقتصادية تحكم مسار المنطقة
ومهما كانت عوامل التغيير الفكرية وكيفية ظهورها، فإنها لا تقوض حقيقة أننا نعيش في عالم يقع فيه الجميع تحت ضغط التغيرات السياسية والأمنية والاقتصادية والثقافية، وفي نهاية المطاف، تحت ضغط المراقبة الإنسانية والعالمية. إن أي طرف سواء الكرد أو قوى مجاورة أخرى، من خلال تغيير سياساتها واستراتيجياتها وفكرها وخارطة التغيير الذاتي إلى أفكار وبرامج ونظرة سياسية للعالم، تعتبر مبادرة قيمة وفعالة للغاية لبناء التوازن لأجل مصالح القومية والشعب. فماذا لو كان الإقليم في طليعة الإصلاح والتغيير والتجديد في أعرافه السياسية، وبالتالي إعادة الاستقرار إلى منطقة تعاني من الاضطرابات والأزمات غير المسبوقة، وتغيير وجهات النظر الأمنية والهيمنة لجيرانه بطريقة إيجابية ومفيدة؟
ان اقليم كردستان والجمهورية الاسلامية يبذلان مساع حثيثة للحفاظ على لغة مشتركة للتفاهم ولجم الأزمات والتوترات بينهما.
من وجهة نظر أن رئيس إقليم كردستان، إلى جانب أهمية موقف أنقرة وبغداد، يفهم جيدا دور وثقل طهران في إرساء السلام والاستقرار الراسخين وطويلي الأمد في إقليم كردستان. وتتمتع الحركة الكردية بشكل عام والحزب الديمقراطي الكردستاني بشكل خاص بإرث مشترك من النضال ضد الدكتاتورية البعثية المدمرة طوال الثمانينيات. ولذلك يوفر هذا الماضي الإمكانية بين الجانبين لإنقاذ علاقاتهما من كل الصعوبات والمؤامرات وسوء الفهم والشكوك.
ومن الواضح أن العلاقات الدولية لإقليم كردستان قد تم العمل عليها بشكل مكثف في السنوات الأخيرة وتحسنت بشكل ملحوظ. وربما يكون الآن هو الوقت المناسب لتجديد العلاقات الإقليمية وتطويرها، لأن العلاقات الإقليمية تعمل بشكل أسرع على تطبيع الوضع الاقتصادي والأمني. وإضفاء الصبغة الاجتماعية على البلاد ويحقق الاستقرار بين دول الجوار، وهو ما سينعكس إيجابا ليس على الاقليم فحسب، بل على مصلحة جميع الأطراف أيضاً.
من خلال قراءة رؤى وتصريحات رئيس الاقليم والسياسة العامة لاقليم كردستان يبدو ان الكرد وفي اطار المصالح المشتركة مستعدون للعمل مع جيرانهم، وخاصة طهران وأنقرة، ولكن بشرط ان يكونا متعاونين ويقدمان الضمانات وفيما يتعلق بالقضايا الموقعة في بغداد بين الحكومة الاتحادية وحكومة إقليم كردستان، فإن السياسة الخارجية التي تنطلق من العاصمتين لن يؤثر عليهم سلبا.