أصدر مجلس الوزراء اللبناني الأغر، في جلسته يوم 28 أيار/ أغسطس الماضي، قرارًا بالرجوع عن قراره السابق، الصادر في تاريخ 26 نيسان 2024، بتكليف وزارة الخارجية بتقديم إعلان، إلى سجلّ المحكمة الجنائية الدولية، سندًا للفقرة 3 من المادة 12 من نظامها الأساسي، في قبول اختصاصها للتحقيق والملاحقة القضائيّة لكلّ الجرائم المرتكبة على الأراضي اللبنانية، منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، والتي تدخل في نطاق ولايتها القضائية.
وكان القرار المذكور، صدر بعدما قدم وزير الإعلام فريد مكاري إلى مجلس الوزراء يومها، التقرير الذي أعدّته المنظمة الهولندية للبحث العلمي التطبيقي، بناء على طلب وكالة "رويترز" والمتعلّق باستشهاد المصوّر عصام عبدالله، مقترحًا تقديم الإعلان المذكور لتفعيل المحاكمة أمام المحكمة الجنائية الدولية. وبكلمة أخرى، "لتسهيل الوصول إلى العدالة" في هذه القضية المسؤولة عن جريمتها إسرائيل.
باختصار، لبنان تراجع في هذا القرار عن التعاون مع المحكمة الجنائية الدولية. وحسب نظام المحكمة، فإن الدول التي لا تتعامل مع هذه المحكمة أو تعترف بها، غير ملزمة تنفيذ قراراتها وأوامرها القضائية، أو القيام بأي إجراءات في حال تعرضت للانتهاكات.
الجدير ذكره، أن هذه المحكمة، كانت أصدرت مذكرات توقيف بحق رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، ووزير دفاعه، لاتهامهم بارتكاب جرائم حرب ضد الفلسطينيين في قطاع غزة.
بدل أن يتشجع لبنان ويندفع للاشتراك في المحكمة، فإنه في قراره هذا تنصل منها وانسحب من التعاون معها.
لماذا أقدم لبنان على هذه الخطوة، الصادمة والمفاجئة؟ مع أنه كان يعوّل على إدانة إسرائيل بالمسؤولية عن قتل المصور لوكالة "رويترز"، عصام عبد الله، الذي صدرت تقارير وتحقيقات قوية وصلبة في قضيته تدين إسرائيل؟ أو جرائم أخرى ارتكبت في لبنان أو من الممكن أن ترتكب مستقبلاً؟
الوزير الذي تقدم بطلب الانسحاب من التعامل مع المحكمة، هو وزير الشباب والرياضة، جورج كلاس، المقرب من رئيس مجلس النواب نبيه برّي ومن حزب الله.
هذا التصرف أوحى أن "الثنائي الوطني"، لم يكن يرغب أساساً بالتعاون مع المحكمة، تحت أي عنوان ولأكثر من سبب.
أولها، أن المحكمة كانت قد أصدرت أحكام اعتقال بحق قادة إسرائيل وقادة حماس. مما يعني أن لبنان، كان في حال استمر في التعاون مع المحكمة، مطالبٌ باعتقال قادة حماس، إذا ما قاموا بزيارة لبنان أو السكن والتجول فيه!
الجميع يعرف، أن موجبات مرحلة "وحدة الساحات"، الرائجة هذه الأيام والمعمول بها في هذه الفترة، ترتب زيارات ومشاوير "كزدرة إلى لبنان وفيه" غب طلب المواجهة الدائرة في غزة، لبعض قادة حماس إلى لبنان. مما يضع السلطات اللبنانية أمام ضغوط ومطالبات، قد تأتي مستقبلاً للمطالبة بالتقيد بالالتزامات اللبنانية مع المحكمة. كما أن الحرب الدائرة في قطاع غزة، لا يبدو أنها ستتوقف قريباً، مما يعني أن التطورات لن تبقى محصورة في جانب واحد وحدود محددة.
وبما أن الحرب سجال، وقصتها قصة طويلة، فإن بعض الهمسات تحدثت عن احتمال إصدار المحكمة، قرارات بحق قادة حزب الله، والتي قد تتحرك بضغط بعض اللوبيات في الدول الغربية المناهضة للحزب والموالية لقوى إسرائيلية صهيونية.
من هنا، فإن الاعتقاد السائد أن الحكومة، التي اتخذت قرار الاعتراف بالمحكمة الجنائية الدولية لمحاسبة إسرائيل على قتل المصور عبدالله وجرائم أخرى ممكنة، هي نفسها، أي المحكمة، قد تُستخدم من قبل جهات دولية عديدة لملاحقة حزب الله أو أطراف حليفة له في المستقبل بحجج غير ظاهرة الآن.
وكما هو معروف، فإن الحزب بشكل عام لا يرتاح ولم يسبق أن أُغرم بالمحاكم ذات الطابع الدولي، في مناسبات وقضايا متعددة. وهو لذلك لم يكن مرتاحاً لموافقة لبنان الأخيرة بحجة مقاضاة إسرائيل في قضية مقتل المصور اللبناني في وكالة رويترز، والتي قد تنسحب نحوه، باعتباره طرفاً في السجال والمشاغلة الحربية.
عنصر المفاجأة جاء من اقتراح وزير الشباب والرياضة الذي مرر طابته بين أقدام "اللعيبة" في مجلس الوزراء، من دون أن ينتبه أحد، مما سمح بالتسلل وتسديد الهدف ضد المحكمة الجنائية الدولية، في ضربة ركنية محكمة، هزت شباك المحكمة وشباك لبنان وسمعته.
أما الحكم أو حارس المرمى رئيس مجلس الوزراء، فاكتفى بتمرير التسلل، من دون إطلاق أية صافرة، ومن دون أن يرفع أي بطاقة لا حمراء ولا صفراء ولا خضراء، عملاً بالقول المأثور "ابعد عن الشر وغنيلوا"، و"لا تنام بين قبور المحكمة الجنائية الدولية، حتى لا تشاهد منامات وحشة". فلم يعرف من سبق أن قلق منها في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وقضايا أخرى معقدة، كيف تخلص سابقاً منها وابتعدت عنه.
المدن