لم تعُد الهدنة، أو أي اتفاق لوقف إطلاق النار في غزة، هدفاً في ذاته. فالطرفان المعنيان، إسرائيل و"حماس" لا تستعجلان الوصول إلى هذا الهدف. وقادة الحركة في غزة يعتبرون أنهم أجبروا الإسرائيليين على الدخول إلى ملعبهم ولا يعنيهم حجم الضحايا والدمار.
رسائل يحيى السنوار التي كشف النقاب عنها أخيراً ترى في الدماء شعلة تضيء طريق التحرير، وفي إسرائيل يمضي نتنياهو وفريقه في خوض معركة وجودية لا بقاء فيها لـ"حماس" أو ما يماثلها، لا في فلسطين ولا في محيطها. لقد بات النقاش في مكان آخر، ولا يأخذ في الاعتبار موازين القوى ولا القضايا الإنسانية.
إنها حرب مفتوحة تحركها حسابات تراوح ما بين مصلحة قادتها ورغبات أطرافها خارج مساحة غزة وفلسطين. ولا يفتقد الطرفان المتقاتلان الأصدقاء ومصادر النصح والتمويل. فللحركة الفلسطينية الإسلاموية من يدعمها ويؤويها في إيران وقطر وتركيا، وكلها دول تحمل تطلعات إقليمية غير مخفية لم تصِل، ولن تصل، إلى حد الضغط لصياغة قرار السير في مشاريع التسوية المطروحة، وآخرها مشروع الرئيس الأميركي جو بايدن الذي أقره مجلس الأمن الدولي.
قطر تكتفي بإبداء ملاحظات انزعاج، وتركيا التي اعتبرت "حماس" على لسان رئيسها رجب طيب أردوغان، زبدة "الحركة الوطنية الفلسطينية"، تمضي في خطاب الاستثمار السياسي للأزمة، وإيران لم تبدل في رؤيتها للحرب وللضالعين في مساندتها بوصفهم مقاتلين في الجبهة الأمامية دفاعاً عن الأمة الإيرانية بنظامها المذهبي الذي يحتاج إلى دفعة دعم ومشروعية عشية تعيين رئيس وحكومة جديدين.
في السياق وعشية عيد الأضحى حرص المرشد الإيراني علي خامنئي على توجيه رسالة إلى الحجاج في مكة المكرمة بهدف استثمار المناسبة بما يناسب حاجاته ورؤيته للصراع. قال خامنئي إن "البراءة من الكيان الصهيوني وداعميه، لا سيما الإدارة في الولايات المتحدة الأميركية، ينبغي أن تتجلى قولاً وعملاً لدى الحكومات والشعوب، يجب وبكل الطرق مساندة المقاومة الفولاذية لفلسطين، ودعم أهالي غزة الذين دفعت عظمة صبرهم ومقاومتهم العالم إلى الإشادة بهم وتبجيلهم".
كانت إدارة الحج منهمكة في تيسير أمور ملايين الحجاج الوافدين من أصقاع العالم فيما خامنئي يبحث عن نقطة إثارة مصلحة مكشوفة. ولم تتأخر "حماس" في توجيه رسالة مماثلة، فقال "أبو عبيدة" المتحدث باسمها للحجيج إن "طوفان الأقصى" انطلق من أجل ثالث الحرمين الشريفين، ومناسك الحج هي فرصة لنذكّر أمة الملياري مسلم بحقيقة صراعنا مع عدونا الذي ينتهك مسرى رسول الله ويعيث فيه فساداً وتهويداً كل يوم". لقد قال "أبو عبيدة" ما لم يصرح به المرشد الإيراني، فأصبح هجوم السابع من أكتوبر (تشرين الأول) مجرد هجوم ديني لا علاقة له بالشعب الفلسطيني وأرضه وأسراه.
لدى إسرائيل أيضاً أصدقاء وقفوا معها منذ هجوم السابع من أكتوبر. هؤلاء وفي مقدمتهم الولايات المتحدة الأميركية قدموا دعماً هائلاً لها في حربها المستمرة. هم يدينون "حماس" لكن رؤيتهم للصراع تتضمن أفكاراً أخرى بما فيها ضرورة الوصول إلى حل سياسي يتيح قيام دولة فلسطينية مستقلة.
وتندرج مبادرة بايدن في هذا السياق، والعالم العربي المعني الأول بقضية فلسطين لم يتوقف يوماً عن المطالبة بدولة فلسطينية مقابل سلام شامل في المنطقة. وسياسة "حماس" ومن ورائها إيران ومحورها تتناقض مع هذه الوجهة، لكنهم ليسوا الوحيدين في رفضها، فالطاقم الإسرائيلي الحاكم يتبنى وجهة النظر نفسها، لا لوقف الحرب ولا لدولة فلسطينية.
مع ذلك يمتاز الوسط السياسي الإسرائيلي بحيوية لافتة في التحليل والانتقاد وتقاذف المسؤوليات، مما يفتقده الشارع الفلسطيني بل العربي. لم يعُد استمرار الحرب في غزة مقنعاً لكثيرين في إسرائيل.
"معاريف" وصفت ما يجري هناك بـ"حرب الخنادق خلال الحرب العالمية الأولى"، ويسأل الكاتب فيها يتسحاق بريك، "لماذا لا يوقف الشعب جنون هذه العصابة ويرسلها إلى المنزل؟". والعصابة المقصودة تضم "ثلاث شخصيات فاشلة نتنياهو وغالانت (وزير الدفاع) وهرتسي هاليفي (رئيس الاركان)"، بحسب بريك، فهم "مستعدون للقيام بكل شيء للحفاظ على السلطة". وهتلر فعل الشيء نفسه في ألمانيا، فعندما هزم أمر بتدميرها.
هناك معارضة إسرائيلية تتسع يوماً بعد يوم للفريق الحاكم تطالب بانتخابات مبكرة وتغيير حكومي وتلح على وقف الحرب وإعادة الرهائن وتعتبر أن نتنياهو يقود إسرائيل إلى الخراب. وتأخذ تلك المعارضة في الاعتبار ضرورة عدم الخلاف مع الإدارة الأميركية، وبعضها يحذر من الأضرار اللاحقة بصورة إسرائيل في المنطقة والعالم، وبعض آخر يمارس لعبة الكراسي لمجرد رغبة في استبدال الحاكم.
لكن، في العمق، يذهب النقاش الداخلي الإسرائيلي في الاتجاه الذي يخدم نتنياهو، فهو يطرح الاستمرار في الحرب لإنهاء التهديد في غزة والضفة والشمال حيث يتبادل جيشه و"حزب الله" القصف يومياً، ومعارضوه يقولون بوقف معركة غزة استعداداً للحرب الإقليمية المقبلة لا محالة، وهذا يعني احتمال الاشتباك مع أذرع إيران كافة وربما إيران نفسها.
الحرب الإقليمية تبدو العنوان المطروح إسرائيلياً وإيرانياً، والسير نحوها لم يتوقف منذ السابع من أكتوبر، أما وقفها فسيحتاج إلى ضغوط مختلفة من الوسطاء وحلفاء الطرفين كافة، تتوج على الأرجح بتغييرات في إسرائيل كما في الجسم الفلسطيني الممزق. والسؤال المطروح بإلحاح الآن هو، هل تجري هذه التغييرات قبل تلك الحرب الإقليمية أم بعدها؟ وهل يمكن في لحظة ما أن تسفر الوساطات عن خرق ولو ضئيل في جدار التصفيات الكبرى الذي يبنيه الطرفان؟.
أندبندنت عربية