المعاناة الإنسانية التي يعيشها الفلسطينيون في قطاع غزة أكبر مما نتخيل، وأكثر ثقلاً على المدنيين والنساء والأطفال فيما تحدثه فيهم من أضرار بالغة، ليس عبر القتل فقط، إنما الجرحى الذين فقدوا أطرافاً، دون أن ننسى الأزمات النفسية العميقة التي ستظهر جلية لدى جيل الأطفال الذين عاشوا هذه المأساة! هنالك وجعٌ كبير، وأصوات لمواطنين يشتكون مما تمارسه إسرائيل من قتل وتجويع وتهجير، وهؤلاء يطالبون بوقف فوري للحرب، ويشيرون بإصبعهم إلى تل أبيب وحركة "حماس" على اعتبار أنهما الطرفان المسؤولان عن الوضع الحالي.
صوت هؤلاء الغزاويين الناقد والرافض لـ "حماس" لا يريد كثيرون سماعه، ويسعون إلى تغييبه عن الإعلام، والتقليل من أهميته، وتصوير هؤلاء أنهم مجرد مواطنين متذمرين مؤقتا لا أكثر! هناك دعوات عدة لمواصلة القتال، وأن النصر صبر ساعة، وأن هذه فرصة تاريخية لتحرير الأرض وهزيمة الاحتلال، وأن التضحيات وسقوط عشرات آلاف القتلى ما هي إلا أثمان طبيعية تدفعها جميع الشعوب في طريق التحرر والكرامة! هذه السردية "الثورية" تمارس مغالطة معرفية وتاريخية كبيرة، وتنطوي على تبسيط لمشهد غاية في التعقيد، لأن عملية التحرير والمقاومة لا تتم عبر السلاح وحسب، بل هناك أساليب مدنية ووسائل متعددة للعمل من أجل بناء دولة مستقلة وفق قرارات الشرعية الدولية. صحيح أن هناك حكومة إسرائيلية متطرفة لا تؤمن بـ "الدولة الفلسطينية" وتسعى لترسيخ أمر واقع عبر مزيد من الاستيطان، وترفض المبادرات الإقليمية والدولية الداعية لعملية السلام، إلا أن عملية 7 أكتوبر 2023 التي نفذتها "حماس" لم تعبِد طريقاً نحو القدس، بل جاءت النتائج كارثية أدت لنكبة تفوق ما حصل في العام 1948، لأن السلاح عندما يستخدم دون عقل ودون استراتيجية وسياسة، يكون سلاحاً أعمى، يهدم ولا يبني.
الكثيرون يجلسون وراء الشاشات الباردة، يستمعون للأغاني ويرقصون على أنغام الدبكة الفلسطينية ملوحين بالكوفية، وآخرون يرفعون قبضاتهم مهللين ومكبرين وداعين لاستمرار المقاومة، ثم يذهبون لمهاجعهم سالمين، لديهم حياتهم المستقرة والآمنة، فيما أهل غزة من يدفعون الثمن الحقيقي والباهظ!
على المنتشين بقوة السلاح أن يتواضعوا قليلاً، وأن يستمعوا لصوت المعاناة العميقة لدى العائلات المكلومة، تلك التي اختطفت "حماس" أحلامها وأبناءها من أحضانهم، وزجتهم في تنورِ النار الإسرائيلية المشتعلة!.