صدر في 28 كانون الأول/ديسمبر من العام 2023، عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات للباحث والاستاذ في الجامعة اللبنانية الدكتور فارس اشتي كتاب بعنوان: "الهجانة في تشكّل الأحزاب السياسية الحديثة: المجال العربي أنموذجًا".
وقد بيّن الكتاب واقعَ الأحزاب العربية المأزوم، بوصفه مثالًا للبلدان خارج المركز الرأسمالي، عبر عرض إشكاليةٍ تُعارِض تشكّل الأحزاب في البنى المجتمعية الهجينة مقارنة بتشكُّلها في العالم الغربي، منطلِقًا من فرضية اختلاف المحددات البنيوية لتكوين الحزب العربي بعد النصف الثاني من القرن التاسع عشر عما هي عليه في الدول الحديثة، وهجانة هذه المحددات مجتمعيًّا ودولتيًّا.
ويرى اشتي في كتابه، أن فكرة الحزب السياسي الوافدة إلى العالم العربي نمت على أرضية هشّة هجينة في بناها المجتمعية القائمة على الإنتاج الزراعي والرعوي، ومحكومة في مجالها السياسي من السلطة الأبوية والسلطة النبوية، وكلها مرهونة بعلاقات الوﻻء والتبعية والاستبداد، تطويعاً وتطبيعاً، وبعيدة من مقومات الرأسمالية الغربية الحديثة، ليصل في الختام إلى الحديث عن لبِّ موضوع البحث، وهو الهجانة وحضورها في الأحزاب العربية، وأثرها في ضعضعة أهداف وتركيبة وقوام هذه الأحزاب.
الكتاب القيم يرتكز على فكرة مركزية مفادها ان الأحزاب السياسية في المجتمعات الغربية قامت بعد بلوغ هذه المجتمعات درجة معينة ومتقدمة من التطور الراسمالي والاجتماعي وبالتالي فانها قامت على أسس معينة من التطور الاجتماعي والاقتصادي المتقدم والمتطور. وهذا بطبيعة الحال ما افتقدته مجتمعاتنا في المجال العربي حيث قامت على بنى اجتماعية ما قبل راسمالية أي على مجتمعات ريفية زراعية احتكمت للبنى الاجتماعية السائدة والمتحكمة، لذلك فانها افضت كما يريد ان يوحي المؤلف، بقيامها الضعيف هذا استنادا الى تجارب مختلفة عن تجارب الدول الغربية واسفرت عن تجارب مليئة بالتبعية للبنى الاجتماعية التقليدية القائمة مثلا على المفاهيم الابوية والزبائنية والتبعية التقليدية وليس على الحداثة واساليبها، ومنها دولة المواطن والقانون والديمقراطية والمحاسبة. والتي انتجتها المجتمعات الكاملة التطور الراسمالي والحضاري المدني.
مرد هذا الكلام الان هو الانفجار العلني للازمة السياسية الأولى والاعنف حتى الان التي يشهدها التيار الوطني الحر عبر تتابع طرد وتصفية سياسية وتنظيمية لاكثر من ثلاثة كوادر وشخصيات حزبية خارج صفوف التيار، تقدمهم في هذه الدفعة ابن شقيقة الاب المؤسس الرئيس الجنرال المفدى ميشال عون، اي النائب آلان عون والذي كان يعد من ابرز المنافسين للرئيس الحالي الوارث للتيار عن والد زوجته رئيس الجمهورية السابق.
هذا التطور دفع بالنائب الجبيلي والكادر المعروف والناشط البارز في منطقته سيمون ابي رميا لاعلان الاستقالة بكلام تضامني استباقي مع زميله المطرود الاخر آلان عون وقبله نائب رئيس مجلس النواب الياس أبو صعب، بعد ما كان تعرض له الكادر الاخر الأكثر توترا وحساسية وشهرة ابن مدينة جزين زياد اسود، الذي لا تزال صوره وهو يتعرض للضرب والبطش من قبضات وارجل رجال امن اميل لحود وجميل السيد امام المحكمة العسكرية في السابع من اب عام 2000 ماثلة للعيان ابان التحضير لانتفاضة الاستقلال.
في السياق نفسه يبدو ان اطار المطرودين من صفوف التيار ما لبث ان اتسع وتوسع بسرعة كبيرة ليشمل رئيس لجنة المال والموازنة إبراهيم كنعان، من دون رحمة او تردد مع نزع عضويته من المكتب السياسي وبهدلته من جماعة واتباع باسيل علنا لانه طرح الامر في مؤتمر صحافي مطالبا وداعيا للتروي والحوار. فكان رد باسيل وجماعته قاسيا بالقول لكنعان بطريقة مواربة "كان يجب ان تبقى صامتا فلا يحق لك ولا يسمح الكلام في شؤون التيار امام الغرباء من خارجه، لتغسل وتنشر غسيلنا، بدل ان تاتي الى مطبخنا الداخلي وتشارك في تقشير ما تبقى من بطاطا وبصل تحضيرا للطبخ التنظيمي السياسي الجاري اعداده من قبل القائد الوارث والمتحكم"!؟
لم تخل اية وسيلة إعلامية مكتوبة او مسموعة او مرئية، من خبر او تحقيق يتابع فصول تداعي واتساع ازمة التيار العوني في هذه الأيام. وسط استهجان لما يتعرض له كوادر التيار من محاسبة ومعاملة قاسية من القيادة الحالية.
والحقيقة ان هذا الاستهجان، لما يجري في التيار ولكوادره المعارضة لباسيل، في غير محله على الاطلاق. اذ ان اغلب البنى والتنظيمات السياسية الحزبية اللبنانية حاليا، ليست باحسن حال من حال التيار العوني. وهي باغلبها ليست الا عبارة عن دكاكين او مزارع موزعة ومتناثرة لديكتاتوريات العائلات والزعامات الفردية المؤلهة، والميليشيات المتنفذة والمتحكمة برقاب اللبنانيين، والتي يظن مالكوها والمسؤولين عنها، انهم انصاف الهة لا يمكن معارضتهم او مناقشتهم والافتراق عنهم، او الابتعاد عن عبقهم. نتيجة تتابع تسلط واستحكام واستكبار لا محدود بعد نهب واسع لمقدرات اللبنانيين غير محاسب عليها، والذي تسبب بالكوارث الحالية التي يتخبط بها لبنان.
بالمختصر، باسيل قرر تصفية المزعجين له من التيار على ايام الاب المؤسس وبرضاه ومساعدته، لكي يقطع دابر الازعاج في المستقبل ويتمكن من تسجيل عقار التيار على خانته، باسمه وامرته على ايام وحياة القائد الاعلى.
لكن السؤال ماذا سيفعل هؤلاء وما هو المتاح امامهم بعد الذي جرى؟
بسبب غياب وانعدام وجود البعد السياسي والفكري للشخصيات المواجهة لباسيل، ما من طريق امام المفصولين، والمنكل بهم، الا السكوت المرحلي، وانتظار احدى فانات او بوسطات النقل المشترك بلونها الجديد البشع، والمنطلقة الان بخطوطها المسترجعة والمستحدثة، برعاية الحزب القائد والوزير الناشط المتحرك علي حمية، لربما تمكن من نقلهم من محطة الى محطة ما، في الانتخابات النيابية المقبلة، عبر ضمهم وتهجينهم في لائحة من اللوائح الانتخابية التي ستركب يومها في المقبل من الايام.