ليس هذا أبدا حنينا إلى الماضى الذى عشناه فى الخمسينيات من القرن الماضى، ولكنه حقيقة ساطعة للأسف تعبر عن خلل خطير فى التماسك الاجتماعى والشعور بالانتماء، والطبقية البغيضة والجشع والطمع غير المحدود لجنى الأموال بكل وسيلة ممكنة، وغيرها من الظواهر الخطيرة التى يجب أن تلتفت الدولة لها كأولوية، كما أدعو أساتذة الاجتماع لدراستها وكيفية التعامل معها من أجل كبح جماح هذا الوضع الخطير وما يحمله من تداعيات على مستقبل الوطن. وسوف أبدأ أولا بنبذة سريعة عن الماضى الذى عاصرته فى حى شبرا العريق حين كان الوالد العظيم يرحمه الله مدرسا للغة العربية، وكانت الوالدة العظيمة يرحمها الله متفرغة تماما لرعاية ثمانية أطفال فى كل مراحل التعليم، وكان الوالد يقول لنا دائما إن الفلاح قبل النجاح ويردد على مسامعنا قوله تعالى (وأولئك هم المفلحون)، وهم الذين أدركوا ما طلبوا وفازوا بأجور أعمالهم وأعمال من تبعهم. وقد تعلمنا مجانا فى الأشراف الابتدائية وشبرا الإعدادية والتوفيقية الثانوية وتفوقنا جميعا بفضل الله ورعاية الوالدين، وكنا جميعا فى هذا الزمن لا نفكر إلا فى التفوق مهما كانت الصعوبات الحياتية كما أن أحدا منا لم يفكر يوما فى السؤال عن ديانة الآخر، ولم نشعر يوما بأى تفرقة فى مستوى المعيشة حيث كان السلام الاجتماعى هو السائد.. ثم التحقت بطب قصر العينى مع مكافأة تفوق سنوية وعندما أصبحت طبيب امتياز تسلمت أول أجر مقداره ١٥ جنيها وسارعت إلى شراء فاكهة من مرتبى سعد بها من قلبهم والدى وإخوتى!. وإذا انتقلنا إلى العصر الذى نعيشه الآن سوف نجد فروقا جوهرية تنذر بانقسام اجتماعى خطير وسوف أضرب بعض أمثلة الخطر الذى يحيق بمجتمعنا.
الطبقية البغيضة
أتفق تماما مع الصحفية القديرة أمينة خيرى فى تحليلها للتطور الطبقى فى مصر على مدى العصور، وقالت إن الطبقة المتوسطة ظلت معتمدة على ذاتها وإمكاناتها لبناء نفسها تحفر فى صخر التعليم والعمل والتربية والتنشئة، وتصارع الرياح من أجل الدفع بنفسها وذريتها فى اتجاه القمة بكل ما تملك من عزيمة حديدية ورأسمال قوامه التعليم وإطاره الثقافة، ولكن عمليات النحر الاقتصادى المتواترة تدق أبواب هذه الطبقة بشدة وهى الطبقة الموصوفة بأنها عماد التنمية الاقتصادية وصفوة الموارد البشرية وصمام الأمان.. ومن المثير للغضب والدهشة أن الدولة تتحدث كثيرا عن تحقيق الحماية الاجتماعية لمحدودى ومعدومى الدخل وهذا بالقطع واجبها، فى حين أن الطبقة المتوسطة هى التى تساعد الدولة وتخفف من مسؤوليتها الاجتماعية بما تقدمه من مشاريع خيرية ومساعدات مادية وعينية لهذه الطبقات.. وتبدو مظاهر الطبقية البغيضة فى مجالات كثيرة تنذر بتقسيم الوطن ومنها على سبيل المثال فى مجال التعليم حيث إن إجمالى عدد الفصول بالمدارس الحكومية ٤٦٣١٧١ وفى المدارس الخاصة ٨٨٦٤٤ وإجمالى عدد طلاب المدارس ٢٥ مليونا و٦٥٧ ألفا و٩٨٤ طالبا، وللأسف الشديد فإن الكثافة الطلابية فى الفصول الحكومية والتى تشغلها أغلبية التلاميذ عالية جدا وتصل لأكثر من ضعف كثافة المدارس الخاصة مع انخفاض كبير فى رواتب المعلمين، والمرافق الخاصة بها غير مناسبة للعدد وغيرها من المشاكل التى تجبر المواطن على اللجوء إلى المدارس الخاصة بتكلفتها العالية، وتكون النتيجة عبئا كبيرا على الأسرة مع عدم اهتمام معظم هذه المدارس بإتقان اللغة الأم العربية والتركيز على اللغات الأجنبية وهو أمر لا يليق إطلاقا بمصر وتاريخها ويتنافى مع ما جاء فى الدستور المصرى.. وتكفى نظرة واحدة على مقابلات لدخول المدرسة الخاصة أو لشراء سيارة أو الحصول على شقة من شركات التطوير العقارى المنتشرة مؤخرا فإن كنت من غير اللائقين اجتماعيا فلن تظفر بما تريد!، وقد تصادف أن شاهدت مؤخرا لقاء تليفزيونيا لسيدة تتحدث مبشرة باحتفال بهيج خاص بما سمته (فاشون شو) أى عرض أزياء لملابس الكلاب، وقالت إن ذلك يهدف لبث البهجة ولكى يعلم الناس أن الكلاب ممكن أن تلبس كما يلبسون هم!!، وذكرت أن هناك لجنة تحكيم لاختيار أفضل زى للكلاب ثم ينتهى العرض بالاحتفال بزواج كلب وكلبة وسط تشجيع الحاضرين.. وبكل تأكيد فإن كل إنسان حر فى الاستمتاع بما يرغب ولكنى فقط أعترض على نشر مثل هذه الصور التى بالقطع تثير الغضب والحسرة عند الكثيرين الذين يعانون من شظف الحياة، كما أنها تشير إلى ما يجب أن نتجنبه من طبقية بغيضة وتكفينا الإعلانات الكثيفة التى تدعو من ناحية إلى التبرع لمساعدة المحرومين ومن ناحية أخرى إلى سرعة شراء الشاليهات والفيلات بمبالغ مليونية لا يقدر عليها إلا ما يقرب من ١٥٧٠٠ مليونير من المصريين حسب تقرير حديث من شركة (هينلى اند بارتنرز)!!.
هذا فى رأيى كارثة اجتماعية خطيرة حذرت منها وغيرى كثيرون، ولكن يبدو أن الحكومة لا تعيرها اهتماما، حتى أصبحنا نرى أولياء الأمور الذين يفخرون بإتقان أطفالهم اللغة الأجنبية ولا يجيدون العربية، كما أن معظم المحلات تكتب لافتاتها باللغة الأجنبية على الرغم من صدور قانون يحتم كتابة اليافطة بالعربية، ويمكن أن يضاف بالأجنبية إذا لزم الأمر، والأمثلة لا تعد ولا تحصى بالأسماء الأجنبية التى يعتقد البعض أنها دليل على التحضر والتقدم فى الوقت الذى ترفض فيه كل الدول المتقدمة أن يتحدث أبناؤها بلغة غير لغتها.. وليعلم الجميع أن اللغة العربية من أقدم اللغات التى حافظت على وجودها ومفرداتها ومفاهيمها إلى اليوم واللسان العربى ما هو إلا وتر يعزف عليه اللسان، وهى تحتل المركز الرابع من حيث اللغات الأكثر انتشارا فى العالم وتعترف بها ٢٧ دولة كلغة رسمية وهى من أغنى لغات العالم حيث تتضمن كل أدوات التعبير فى أصولها، وقد سميت بلغة الضاد لكونها الوحيدة التى تحتوى على هذا الحرف الذى هو أصعب الحروف نطقا عند غير العرب.. إن لغتنا العربية فى محنة كبيرة مما دفع منظمة الإيسيكو ومقرها الرئيسى بالمغرب إلى التعبير عن قلقها قائلة (إن البلاد العربية تعانى من أزمة فى الهوية)، والهوية تدل على ميزات مشتركة أساسية لمجموعة من البشر تميزهم عن مجموعات أخرى وهى إحدى ركائز الأمن القومى.. إن إتقان اللغات الأجنبية ضرورة ملحة فى هذا العصر، ويجب أن نشجعه ولكن ليس أبدا على حساب لغتنا الأم التى يجب أن نفخر بها كما هو الحال فى كل الدول المتحضرة.. إننى أطالب الحكومة وخاصة وزارة الثقافة ووزارة التعليم والمؤسسات الإعلامية بالعمل على الحفاظ على لغتنا وتفعيل القوانين التى تحتم كتابة الأسماء باللغة العربية فى المقام الأول، كما أطالب بمراجعة شاملة لطرق تدريس هذه اللغة ابتداء من الحضانة وحتى ثلاث سنوات بأسلوب سهل ومبسط، ثم تضاف اللغة الأجنبية بعدها.
احترام القانون
القانون هو الإطار الذى ينظم العلاقات بين الأفراد بعضهم ببعض من جهة وبينهم وبين مؤسسات الدولة من جهة أخرى.. ويقاس تحضر المجتمعات بمدى تطبيق القانون فيها. ولم تتوصل المجتمعات الغربية لذلك مصادفة ولكن بعد سنوات طويلة من التربية وغرس القيم الأخلاقية فى كل فرد منذ نعومة أظفاره، وكذلك نتيجة إرادة راسخة لدى مسؤولى هذه الدول حيث يتساوى الجميع أمام القانون وتتلاشى تحت قبة العدالة كل الفوارق الاجتماعية والطبقية. كما أن مؤسسات حماية وتطبيق القانون تقوم بعملها على أكمل وجه وتحظى باحترام وثقة الجميع. وللأسف الشديد فإننا نفتقد هذه القواعد منذ سنوات طويلة فالقانون عندنا على أرض الواقع يمكن بسهولة أن يطبق على فئة دون أخرى!، وهناك بالفعل من هم فوق القانون، وأصبح فى وعى المواطن قناعة مفادها أن الالتزام بالقانون نوع من الضعف وقلة الحيلة، ولتجنب الوقوع فى مشاكل يلتزم مادام مراقبا!. وهو ما نراه يوميا عند الوقوف فى إشارات المرور مع وجود شرطى المرور الذى لا وجود له فى العالم المتحضر، كما أن هناك حيلا وطرقا للتحايل على القانون سواء بالواسطة أو بالرشوة.. وهو أمر خطير ويجب أن نعترف بذلك للبدء فى إجراءات تبدأ بغرس القيم الأخلاقية لدى أطفالنا مرورا بتفعيل مبدأ (الجميع سواسية أمام القانون)، وتنتهى بالعقوبات الرادعة والمراقبة الدائمة.. فهل نطمع فى تحقيق ذلك؟.
المصري اليوم