ما بعد 7 أكتوبر.. سنة قاتمة أخرى

عام مضى ثقيلاً، عنيفاً، مروّعاً، على الشرق الأوسط خصوصاً والعالم عموماً. دُفعت خلاله الإنسانية والمبادئ والأعراف والقوانين الدولية إلى حافة انهيار تاريخي لا سابق له. تحوّل معظم قطاع غزّة ركاماً، ومساحات واسعة في أنحاء لبنان حطاماً، ولما تنتهِ المآسي والفظائع بعد. أيُّ خروج من الحرب ومنطقها الدموي والتدميري لا يزال مؤجّلاً، وأية آفاق للعودة إلى السياسة والتفاوض ما تزال مسدودة. حتى هذه اللحظة ليس هناك تصوّر نظري أو أوّليّ لـ"اليوم التالي"، بل هناك توقعات بأن الصراع الدائر قد يستمر سنة أخرى وأكثر، ما لم تقترب الأطراف المتورّطة والمعنية من أهدافٍ قصوى حدّدتها ويستحيل تحقيقها، أو يمكن تحقيقها لكن فقط للتوصل إلى تسويات موقّتة تديم الصراع وتعقّده وتقصي احتمالات السلام والاستقرار إلى أجل غير مسمّى.

هناك دوافع كثيرة لعملية "طوفان الأقصى" صبيحة السابع من أكتوبر 2023، ويبقى الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية في أساسها، ثم تأتي أدوار القوى الإقليمية أو الدولية التي استغلّت الجمود الذي فُرض على الملف الفلسطيني، سواء باستبعاد حكومات إسرائيل طوال خمسة عشر عاماً أي تفاوض مع السلطة الفلسطينية إحياءً لمشاريع السلام، أو بفشل الإدارات الأميركية المتعاقبة في إلزام إسرائيل بوقف الاستيطان، أو -في المقابل- بدخول "محور الممانعة" الإيراني على الخط وتسليحه فصائل مثل "حماس" و"الجهاد" وإعدادها لاستئناف المقاومة المسلّحة لـ"إزالة الاحتلال".

وبالتالي أُدخل الشأن الفلسطيني في دهاليز الصراعات التي يخوضها ذلك المحور مع القوى الدولية، بالإضافة إلى خلافاته مع الأطراف الإقليمية. ويتفاوت تقويم حدث 7 أكتوبر وتداعياته بين مَن يعتقد أنه كان "خطاً استراتيجياً" ارتكبته الفصائل وداعموها، وبين مَن يعتبره "نتيجة" كانت دائماً متوقّعة للاحتلال وممارساته ومحاولات إسرائيل إضفاء شرعية عليه من دون حصول الشعب الفلسطيني على أدنى حقوقه المشروعة. أما الردّ على هذا الحدث فاتَّخذ إسرائيلياً وأميركياً ودولياً، وكذلك عربياً وإسلامياً، أبعاداً متفاوتة الفاعلية.

لم يُستغرب "الدعم المطلق" الأميركي والغربي لإسرائيل، لكنه أغرقها في تطرّفٍ غير مسبوق وما لبثت نتائجه الكارثية أن فاجأت حتى داعميها الذين واصلوا الاعتراف لها بـ"حقها في الدفاع عن نفسها"، وهي استغلّت ذلك في اتجاهات عدة: أولاً، تدمير منهجي لأهداف ومرافق مدنية (مساجد، مستشفيات، مدارس، مراكز نزوح.. إلخ) في غزّة، كما في لبنان، بذريعة أنها مراكز عسكرية. وثانياً، في ممارسات أقرب إلى الإبادة الجماعية، ومنها التجويع. وثالثاً، معارضة العديد من قادتها أي بحث في وقف إطلاق النار وإنهاء الحرب وتبنّيهم هدف التوسّع في الاحتلال ليشمل الضفة الغربية وقطاع غزّة. ورابعاً، اتخاذ مواقف وسنّ تشريعات ضد خيار "حلّ الدولتين" المجمَع عليه دولياً بإقامة دولة فلسطينية.

وفي نهاية هذا العام الأسود، ومع الاستهداف الإسرائيلي الشرس لـ "حزب الله" في لبنان، وهجمات صاروخية إيرانية على إسرائيل، انطوى تماماً كل حديث عن منع توسيع نطاق الحرب، وظهرت أكثر معالم الصراع واقعيةً باعتباره بين إسرائيل والقوى الدولية الداعمة لها وبين إيران ووكلائها. وهذا ما فاقم القلق من "حرب إقليمية" تريد القوى الدولية تجنّبها لأنها ستعرف متى تبدأ ولن تعرف متى ولا كيف ستنتهي.

لكن هذه المخاوف شغلت المجتمع الدولي عن متابعة الاهتمام بالمأساة الإنسانية العميقة لغزّة، وكذلك عن المخاطر المهددة لوجود الدولة اللبنانية. ومع استمرار الحرب، تتبدّى النتائج الملموسة لما حدث: لا مقومات للحياة في غزّة، لا إزالة للاحتلال بل توسّعه، مزيد من الإضعاف للسلطة الفلسطينية، وإحباط للمحاولات الدولية ولا سيما العربية لإيجاد أفق سياسي للمسألة الفلسطينية. ومن جانب آخر زجّت "حرب مساندة غزّة" بلبنان في أزمة عميقة تضاف إلى كل أزماته الأخرى.

الاتحاد

يقرأون الآن