تمرّ المؤسسات الرسمية بأسوأ حالاتها، فقد شلت الأزمة والإضراب والغلاء العمل فيها وبات الحصول على معاملة يحتاج واسطة ومالاً وضربة حظ، حيث من الصعب القول «المؤسسات ماشية»، بل يجزم الكل بأن الدوائر الحكومية مشلولة» بالكامل. ففتات المساعدات التي تلحق الموظفين لا تسدّ الرمق وبات المعاش يساوي تنكتي بنزين لا أكثر. كل ذلك يحصل وسط صمت غريب ومريب للحكومة وقد تركت الإضراب شغّالاً من دون أن تفعل شيئاً، وكأنها وجدته عذراً شرعياً للتخفيف من جيش القطاع العام، وإعادة تنظيف خريطته.
نقمة عارمة تسود الموظفين هذه الأيام، لا سيما الذين شاركوا في العملية الانتخابية، فالمساعدة التي وعدوا بها طارت ولم تصلهم حتى الساعة، رغم انقضاء قرابة الثلاثة أسابيع على إجراء الانتخابات، لا يخفي هؤلاء نقمتهم، بل يقول أحمد «أكلنا الضرب، وطلعنا بلّوشة»، بالمقابل تجزم منيرفا أن «الدولة استغلتهم لقضاء حاجتها ورمتهم عظماً للازمات والتخبط السائد حولهم».
انتظرت ريما وصول رسالة تؤكد حصولها على المساعدة الانتخابية من دون جدوى، حتى بدل النقل الذي وعدت به كما غيرها من جيش الموظفين الذي أدار العملية الانتخابية «تبخر ويبدو أنهم ضحكوا علينا، فلا طالتنا مساعدة الدولة ولا مساعدة الانتخابات، وبين الاثنتين تعب نهار طويل ودفع مليون ونصف ثمن تفويلة بنزين من النبطية الى الشوف طلع من راسنا»، وعلى حد قولها «كان الاتفاق يقضي بتحويل الأموال مباشرة بعد الانتخابات، غير أنهم دفعوا للقوى الأمنية، والأساتذة، والموظفون حرموا منها كما حرمنا من كثير من حقوقنا».
إذاً، مستحقات الانتخابات المالية للموظفين ذهبت أدراج تصفية الأعمال، وربما لن ينالها أحد كما يقول فؤاد ويرى «أن كذب الدولة على الموظفين سيعود بالأذى عليها».
كثر، وقعوا ضحية الوعود الكاذبة لدولة لم تنتج سوى الأزمات، ما دفع بالعديد من الموظفين إما للهجرة أو للبحث عن عمل آخر. لطالما شكا محمد وهو عنصر في القوى الأمنية سوء الحال، «شو بتعمل الـ50 دولاراً هذه الأيام»؟ بهذه الكلمات يقابلك أمام بسطة الخضار التي وضعها على الطريق، لم ينتظر أن يموت أولاده جوعاً أو مرضاً، قرّر البحث كما كثر مثله عن عمل إضافي، لمواجهة عواصف الأزمات، يؤكد أنه مضطر للعمل، ولن ينتظر الـ50 دولاراً فقط، «أبيع الخضار لأنها باتت أكثر ربحاً».
وإذا كان محمد يبيع الخضار فالرقيب في القوى الأمنية يوسف قرّر جمع التنك والخردة من مزابل النفايات المنتشرة على الطرقات، لأن الوضع سيّىء للغاية، وأكثر يردّد «شو جبرك عالمرّ إلا الأمرّ منو»، لا يخجل بما يقوم به «فالدولة لم تترك لنا خياراً آخر، تركتنا نصارع وحدنا، ولا حل أمامنا سوى البحث في الزبالة، نعم الى هذا الدرك وصلنا».
محمد شاب عسكري في الجيش اضطرّ ليعمل في النكش بالمجرفة ليؤمّن لابنته الحليب والأدوية والحفاضات، «فالمعاش ما بيكفي مواصلات» على حد قوله. يمتهن عناصر قوى الأمن أعمالاً ما كانت تعنّ على بالهم يوماً، هم الذين كانوا يعيشون ملوكاً قبل الأزمة، وكل التسهيلات الحياتية مؤمنة لهم، اليوم يقفون على جمر الأزمة من دون سند، ولم يجدوا حلاً غير العمل بهذه المهن.
وفق احمد، الدركي، فإن راتبه لا يكفيه بدل نقل من مكان إقامته حتى مركز عمله في بيروت، «فالأجرة غالية جداً، أحياناً يطلب ابني مني شوكولا ومصروفاً أعجز عن تلبيته، شو بيعملو مليونين ونصف هذه الايام، لا يكفون سداد فاتورة الاشتراك وشوية أكل»، واكثر يقول «الكارثة الكبرى تنتظرنا حين رفع المحروقات حينها لن يكفي راتبنا للخبز والاشتراك فقط».
مئات الاشخاص من القوى الأمنية يعملون في ظروف مماثلة، يحرثون الأرض، يزيلون الأعشاب، ينقّبون عن التنك والحديد في النفايات، يزرعون، يبيعون الخضار، ومنهم من يعمل في تنظيف الطرقات عبر جمعيات أجنبية، فالظروف التي يمرّون بها صعبة، وعلى حد قول علي «الاعاشة الشهرية لا تكفي، والغلاء قاتل حولنا، ولم نجد خياراً آخر سوى النكش او التحسر على الحال».
إذاً، انسحبت الظروف القاسية على كل القطاع العام والقوى الامنية، وحدها كلمة «الله يكون بالعون» ترافق الجميع وهم ينتظرون حلاً من دولة تعجز أصلاً عن وضع الحلول لأنها شاطرة فقط في رسم الأزمات.
رمال جوني - نداء الوطن