مع دخول المفاوضات غير المباشرة حول ترسيم الحدود وتقاسم المخزونات الغازية والنفطية مرحلة بالغة الدقّة، يعيش لبنان اليوم أحد أكبر التحديات منذ إنشاء الكيان في العام 1920. فإذا انتهت المفاوضات إلى اتفاق عادل- كما يُفترَض- يعترف بحقوق لبنان، ويسمح له باستثمار موارده المخزونة في المتوسط، فستكون النتائج كبيرة جداً لا على المستوى الاقتصادي، بل أيضاً على المستوى السياسي داخلياً وخارجياً.
من المبكر الحديث عن توافق حول ترسيم الحدود وتقاسم المخزونات الغازية والنفطية، على رغم موجات التفاؤل التي تهبّ من جهات مختلفة. فلا يمكن استبعاد الرغبة الإسرائيلية في المناورة والابتزاز، بهدف تحصيل أفضل المكاسب. وسيكون حتمياً أن يحافظ المفاوض اللبناني على الجدّية والتماسك حول موقف واحد، ليخوض غمار المواجهة الشرسة، بحيث لا يستغل أحد أي ثغرة في الموقف اللبناني الداخلي.
ولكن، في أي حال، إذا نجح لبنان في دفع إسرائيل إلى التنازل، وفي إقناع الجانب الأميركي باعتماد نهج متوازن بين الطرفين المتنازعين، فسيكون قد حقَّق انتصاراً سياسياً وديبلوماسياً نادراً، وسلك الخطوات الأولى للخروج من الهوَّة السحيقة التي ينزلق فيها منذ سنوات، والتي لا يبدو لها أفق إلا بمعجزة.
ماذا يعني للبنان أن يدخل القفص الذهبي لنادي الدول المنتجة للغاز والنفط، خصوصاً بعد عامين ونصف العام من بداية الانهيار؟
حتى اليوم، ليست هناك تقديرات دقيقة لمخزونات لبنان من الغاز والنفط. لكنّ بعض الدراسات السابقة أشارت إلى أن قيمتها تفوق الـ1000 مليار دولار، تحصل الشركات منها على نسبة منها تفوق الثلث بقليل، والباقي يكون من حصة الدولة اللبنانية.
وهذا المبلغ الضخم (أكثر من 600 مليار دولار) يفترض أن يودَع في الصندوق السيادي المزمع إنشاؤه لهذه الغاية. وتكون غالبية هذه الأموال جزءاً من احتياط الثروة الوطنية، على غرار مخزونات الذهب، ولا يمكن التصرّف بها، بل استثمارها لتدعيم موقع لبنان المالي والاقتصادي. ويتاح استخدام جزء صغير محدَّد من هذه الأموال في عملية النهوض والإنماء.
صحيح أنّ البدء في استخراج الغاز يمكن أن يستغرق 5 سنوات أو أكثر، لكن الاستثمار في هذه المخزونات يمكن أن يحصل فوراً، أي عندما يتم التوقيع على اتفاقات الترسيم وتُحدَّد حقوق لبنان ويجري تقدير مخزوناتها بشكل دقيق. فعلى أساس هذه الثروة، يمكن للبنان أن يحصل على قروض سخية يعتقد بعض الخبراء أنها قد تصل إلى 5 مليارات دولار سنوياً، ومن مصادر مختلفة، كما أن تصنيف لبنان السيادي سيتحسَّن بقوة وبسرعة.
وهذا يعني، بديهياً، أن يبدأ البلد سريعاً عملية النهوض. وفي الدرجة الأولى، سيحصل لبنان على كميات كافية من النفط والغاز لاستهلاك السوق المحلية، ولا سيما إنتاج الكهرباء. وهذا الأمر كفيل بإنهاء المأزق الذي أوصَله إليه قطاع الكهرباء، إذ هُدِر ما يفوق الـ40 مليار دولار على القطاع، ليصل إلى ما هو عليه اليوم.
ولكن، لا بدّ من الاعتراف بـ 3 هواجس على الأقل في هذا الملف:
١ - يُخشى أن تكون هذه الصورة المتفائلة في غير محلها، لأن التوصّل إلى اتفاق حول الترسيم ما زال قيد الترقّب. فهل فعلاً سيُترَك للبنان هامش أن يكون قوياً وأن يستعيد قدراته وقراره من دون أن يقدّم أي تنازل سياسي، في مكان ما؟
٢ - يُخشى أن يقع لبنان، البلد النفطي، بين حجرَي الرحى: الولايات المتحدة والغربيين في مقابل روسيا والصين وإيران. فهذان المحوران يخوضان غمار حرب طاحنة للسيطرة على غاز الشاطئ الشرقي للمتوسط. فأين سيقف لبنان في هذا الصراع؟ وهل يمنعه أحد المحورين من استثمار الغاز إذا شعر بأنه مستبعد عن الصفقة؟
٣ - إذا تم اتفاق الترسيم وأتيح للبنان أن يستثمر موارده من الغاز، يُخشى أن تُطلَق يد القوى السياسية المحلية في هذه العملية من دون ضوابط، بحيث تستبيح الصندوق السيادي وتهدر هذه الثروة الوطنية كما أهدرت مئات المليارات من الدولارات حتى اليوم.
وفي عبارة اكثر وضوحاً، هناك عيون كثيرة، محلية وإقليمية ودولية، تترقب مئات المليارات اللبنانية القابعة في قعر المتوسط وتطمع بها. كما أن هناك قوى تريد ابتزاز لبنان سياسياً مقابل السماح له ببدء استثمار موارده الطبيعية.
لكن لبنان يرفض حتى اليوم تقديم أي ثمن. فهل سيوافق على دفع ثمن معين، يعتبره بسيطاً، من أجل تسهيل الاتفاق الذي يحتاج إليه بشكل مُلحّ من أجل أن يتجاوز الأزمة؟
وفي أي حال، لبنان ما بعد استثمار الغاز والنفط ليس لبنان ما قبله. فهو سيكون نقطة الجذب التي يتهافت الجميع للحصول على موطئ قدم فيها؟ وهذه مسألة إيجابية ومدعاة اطمئنان، لكنها أيضاً سلبية ومثيرة للقلق.
طوني عيسى - الجمهورية