أول حجر في حلقة «الإنتاج»، هو الحرفي. في لبنان، لا يذكر هذا الحرفي، إلا مع الموسم السياحي، وذلك على شكل أرزة، يشتريها الزائر في سوق الزوق العتيق، أو في أحد المعارض في جونية، ربما في أحد المحال في جبيل. علماً ان أعلى نسبة من الحرفيين موجودة في جبل لبنان بنسبة 22.61% وذلك وفق دراسة تبنتها جمعية «نحن» حول مشروع إظهار القيمة الاقتصادية للقطاع الحرفي في لبنان. في هذه الدراسة وضمن تصنيف فئات الحرفيين العاملين لحسابهم الخاص في جبل لبنان، تحتل المنسوجات نسبة 7.61%، وتليها الأشغال الإبداعية بـ 5.77%، ثم الخشب 4.99% والعمالة اليدوية 2.62%، والذهب 2.10%.
ما وضع الحرفيين في جبل لبنان وكيف يتفاعلون مع الأزمة الإقتصادية؟ سؤال وجهته «نداء الوطن» لبعض الكادحين في كسروان والمتن.
للأسف، بعض الحرف الى زوال. ومن تلك صناعة اللبّادة، ما هي اللبّادة؟ تسأل الحرفي يوسف عقيقي (حراجل): يدلّك مباشرة إلى مار شربل. إذ إن اللبّادة، توضع على الرأس، وهي من الملابس التراثية، وكان مار شربل يرتديها. يعترف عقيقي، أن أولاد شقيقه لم يتمكنوا بعد من اكتساب الحرفة مئة في المئة، ليكون بذلك الأخير حتى الساعة الذي يعرف كيف ينقل إرث مار شربل كما يسميها البعض. أما من يشتريها؟ فيجيبك البعض في المعارض، إن شاركنا بها. تُقرر أن تبحث عن حرفة أخرى، لعلّ الحال أفضل، تبحث في زوق مكايل، قرب مار يوحنا، عن رجل اسمه يوسف عساكر، أخبرونا عنه. يخيّل إليك أنه مختار، على قدر ما يعرف تاريخ عائلات المنطقة، لكن لا! فهو لديه منشرة، وينتج الموبيليا عمره في هذه الحرفة 50 عاماً، قرر الانتفاض على الواقع والكلام واصفاً يومه في هذه الأوضاع، بأنه عبارة عن الانتقال من عند الخروبة (قرب منزله) الى شجرة الكاوتشوك (قرب مشغله) ولا شيء عدا ذلك. إلا بضعة تصليحات، يخجل الزبون من عدم دفع بدل أتعابه. ما يخفف عنه ثقل الواقع أنه ليس وحيداً في هذه الأزمة، وإلا لكان توجّه إلى أقرب طبيب أعصاب، مستعيناً بالمثل الذي يقول: «الموت مع الجمهور، طيب». والسبب في تراجع العمل؟ ترتفع نبرة صوته، لافتاً إلى عدم قدرة المواطن على شراء ربطة خبز، فكيف إذاً بفرش المنزل الذي يناهز سعره الخمسة آلاف دولار، إن توقفت عملية الشراء على صالون صغير. هكذا انتقل من حرفة صناعة المفروشات، علماً أن «فبركته» موجودة، الى عملية التصليح. تتصل ببيدروس (برج حمود)، وهو صاحب مخرطة، لعلّ الوضع أفضل، لا يجيب إلا بصرخة كأننا مسؤولون عن حاله: وين الكهرباء! لا أعمل إلا ساعة في اليوم لأنه ما من كهرباء. فعلى حدّ تعبيره هناك عمل، ولكن هذه المهنة تحتاج الى كهرباء ولا يمكن «دق» مسمار دونها، ولا يستطيع تحمّل تكاليف كهرباء المولد الـ»تريفازيه».
بعض الحرفيين لم يكتف بحرفة واحدة، مثل بيتر خاتشريان (انطلياس) فحرفته الأصلية صناعة الغليون الخشبي، وكان والده يعمل في النجارة، لكنه هو من كثرة حبّه التدخين، أراد أن يصنع غليوناً من الخشب. يومها منذ أكثر من 30 عاماً، لم يكن هناك إنترنت، فبحث في الكتب ونجحت تجربته بتصميم غليون، فامتهن صناعة الغليون الذي لا يرمى، ويستمر بالحياة أكثر من الإنسان. خلال السنوات المنصرمة، زاد العمل، لم يربط الأمر بارتفاع أسعار الدخان أو لا، لكنه سعيد بذلك. التسعيرة تختلف حسب خبرته وفق نوع الخشب فيصف العروق التي تنخر الخشب، أو البحص، وكل تلك أمور لها دور في تحديد مستوى الجودة فتبدأ التسعيرة بالـ75 دولاراً فقط للخشب. لكن بيتر، لم يصمد عبر صناعة الغليون، بل أيضاً يعمل كجوهرجي لقطع ثمينة جداً، فطالما هناك مقر عمل للانطلاق منه، وهو الذي ورثه عن والده، يحرّك يديه لينتج، فهو يملك الحسّ الفني، والصبر على التّعلم.
لكنّ المصيبة تقع على الذين تقدّموا في العمر، ولا يملكون إلا هذه المهارة، فماري عويس التي تعمل في الدانتيل، والتطريز، والكروشيه، كما العباءات، يبدأ دوامها من الساعة السادسة مساءً الى الواحدة صباحاً، ومعروفة جداً ضمن سوق الزوق العتيق. اختارت هذا الطريق بالمدرسة، فعلى أيامها كانت المدارس تعلم هذه الحرفة، وأبحرت بها. تملك اليوم ثروة، غير مصرفة، من منتوجها، وهذا ما سيرثه أبناؤها عنها. فهذه الملابس التي تخرج من بين يديها إن ارتدتها المرأة في عرس، وأرادت أن تحوّلها الى شيء آخر، يمكنها ذلك، كما أن القطعة الواحدة تبقى قيمتها بها، فإن أراد أحد أولادها بيعها بأي ثمن كان، يمكنه. تصف حركة البيع اليوم بالخفيفة الى منعدمة، لأن النساء يتجهن الى مصممي الأزياء، بسبب «الموضة» والركض خلف «التراند»، ولا يوجد وعي لدى أبناء هذا الجيل على أهمية التراث على حدّ تعبيرها. بعض العباءات، قضت سنة ونصفاً تعمل عليها، ولا يمكنها أن تبيعها بأقل من 5 آلاف دولار، لكن من يشتري؟ وماذا حصل بالنساء اللواتي عملن معها، ودربتهنّ؟ اذ ماري، كانت تكلّف عدداً من النساء بمساعدتها، كل واحدة في منزلها، ليتضح أنه بسبب توقف عملية الطلب والبيع، كل هؤلاء النساء أصبحن عاطلات عن العمل.
تبتعد عن كسروان والمتن لتقارن إن كانت هذه حال هذه المنطقة فقط أو هناك من هو أفضل حالاً في مكان آخر لتكتشف أنها أسوأ لدى الحرفي مروان ناصيف (الجنوب عين الدلب) فحرفته وهي حدادة عربية، بحاجة الى كهرباء للفرن، وهذا بعيد المنال، إذ إن غياب الكهرباء، يؤثر على عمله، لذا يلجأ الى الفحم الحجري والمواد الأولية من الخارج أو كسر سيارات. هذه الحرفة على حدّ تعبيره تحتاج الى مناطق زراعية، فأكثر منتوجه يذهب الى المزارعين وأدواتهم مكلفة للغاية. يصنف هذه المهنة بالحرفة المعرّضة للانقراض وهي ليست من أولويات الدولة، متمنياً على الدولة أن تربطهم بجمعيات دولية تهتم بالحرف، علماً أن هناك دوراً كبيراً للبلديات.
يحاول نقيب الحرفيين الفنيين في لبنان حسن وهبة أن يبث الروح الإيجابية بين الحرفيين رافضاً منطق «النق»، فهو بانتظار إقرار القانون المقدم، بالنسبة اليه هناك جرعة معنويات جديدة للحرفيين في لبنان، إذ هو يمد يد العون لبرنامج «مشوار بالوادي» الذي يعرض على شاشة الـ»ام تي في» والذي يضيء في بعض حلقاته على عمل الحرفيين. هذا ليس كل شيء في جعبة وهبة، إذ يسعى الى المشاركة في معارض متنوعة، مشيدا بالدورات التي تحصل في وزارة الشؤون الاجتماعية، لنقل هذه الحرف الى الأجيال القادمة. كل تركيزه اليوم، بعد القانون يذهب الى تأمين مقتنيات خاصة ببعض الحرف في مقرهم في وزارة الصناعة، التي سيتم التدريب عليها، فمن المستحيل أن تنقل أغراض حرف معينة من المشغل سائلاً كيف يحمّل الفخار الثقيل من الجنوب بكلفة منخفضة؟
هكذا ومع مساهمة الصناعات الثقافية والإبداعية في نحو 5% من الناتج المحلي الإجمالي للبنان وتوظف 4.5% من اليد العاملة الوطنية، وفق الدراسة التي تبنتها جمعية «نحن»، يضيء مدير جمعية «نحن» محمد أيوب على واقع أن الحرف اللبنانية غير معترف بها بالقانون، فلا يوجد تعريف وبالتالي لا معايير، لذا ليس واضحاً بعد من هو الحرفي، ومن هو غير الحرفي، ما أدى الى ضياع. هكذا يترك الحرفي عارياً من أي نوع حماية أكانت ثقافية، اقتصادية أم اجتماعية. بناءً على هذه المعطيات، قررت الجمعية العمل على حماية القطاع، فكان اقتراح القانون للاعتراف بهذه الشريحة «المهمشة» وتأمين حماية صحية كما اقتصادية بسلسلة إجراءات منها أن كل ما ينتج لبنانياً يجب وضع علامة عليه بـ»صنع في لبنان»، ونمنع أي منافسة خارجية له بفرض جمارك مرتفعة، وينشئ لبنان معامل لاستخراج المواد الأولية أو استيرادها بأسعار مخفضة للحرفيين. علماً أنه وفق الدراسة نفسها 64.65% من الحرفيين لا يصدّرون بضائعهم، و18.25% منهم كانوا يصدّرون بضائعهم في السنوات السابقة، مقابل 17.19% فقط قادرين على تصدير بضائعهم وكل هذا يعود الى غياب سياسة رسمية لحماية الإنتاج، والكلفة الباهظة للمواد الأولية والمعدات اللازمة في بعض الأنشطة الحرفية. وهذا أحد المؤشرات التي تدل على غياب الدولة التي لا تشجع الصناعة المحلية على حد تعبيره. لذا أتى الاقتراح لتحديد الوصي على القطاع وهي وزارة الصناعة أما وزارة الاقتصاد فتمنع إغراق السوق، والسياحة تضع الإنتاج في المناطق السياحية، والثقافة توثقه كي لا يختفي ويبقى أن تدرجه وزارة الشؤون الاجتماعية على خطة التنمية الاجتماعية. فمتى يقرّ القانون؟
ريتا بولس شهوان - نداء الوطن