نشر الإعلام الحربي لحزب الله مقطعًا مصورًا تحت عنوان "جبالنا خزائننا"، يستعرض فيه قدرات أنفاق الحزب ومنشآته تحت الأرض في جنوب لبنان على مقربة من الحدود الإسرائيلية، وذلك في 16 آب/ أغسطس الماضي، أي قبل بدء العملية البرية الإسرائيلية في الجنوب اللبناني.
تلقت الأوساط الإسرائيلية مقطع الحزب الاستعراضي باهتمام بالغ، فقد وصفته صحيفة يديعوت أحرونوت بأنه "فيديو تهديدي" لإسرائيل، ونعتت المنشأة التي ظهرت فيه بأنها مختلفة تمامًا عن الأنفاق البدائية التي بُنيت في بداية الألفية الجديدة واستخدمها مقاتلو الحزب خلال حرب تموز/ يوليو 2006.
وقد خلص التحقيقات إلى أن الأنفاق كانت ورقة حزب الله الرابحة التي مكنته من مواجهة التفوق التكنولوجي الإسرائيلي وتفادي القصف الجوي.
لا يعد استخدام الأنفاق في القتال أمرًا حديث العهد، بل هو تكتيك عسكري قديم، وتشير المصادر التاريخية إلى أن الآشوريين كانوا أول من حفر الأنفاق لاقتحام المدن المحصنة قبل أكثر من 4 آلاف عام.
وفي العصر الحديث، برز استخدام الأنفاق في نطاق "الحروب غير المتماثلة" و"الحروب الهجينة"، التي تجري بين طرفين غير متكافئين في القوة والعتاد؛ مما يدفع الطرف الأقل قوة إلى اعتماد "الأنفاق" أداةً تكتيكية تمنحه مقدرة أكبر على المناورة ومفاجأة العدو وتفادي المواجهات المباشرة مع الطرف الأقوى.
ونتيجة لذلك، تحسن الأنفاق من ميزان القوى، كما تجعل الطرف الأكثر قوة غير قادر على التنبؤ بالخطوات الدفاعية للطرف المقابل أو تأمين تموضع قواته.
بنية أنفاق حزب الله
"كلما كانت القدرة التدميرية لسلاح الجو الإسرائيلي أكثر فعالية، وجب على خصومها التراجع أعمق تحت سطح الأرض".
هذا ما خلص إليه إيال وايزمان، وهو مهندس معماري إسرائيلي وناشط سلام، في كتابه "أرض جوفاء: الهندسة المعمارية للاحتلال الإسرائيلي".
ويعني بهذا أن إسرائيل طالما احتفظت لنفسها بحق السيطرة المطلقة على المجال الجوي، اعتمادا على التفوق التقني والتكنولوجي، وهو ما تسبب في دفع المقاومة إلى إتقان فنون القتال تحت الأرض، من خلال استغلال المجال الحيوي في جوف الأرض وتحويله إلى أداة عملياتية في مقابل التفوق الجوي، وهو ما حدث بالفعل سواء في غزة أو الجنوب اللبناني.
ويُعتقد أن أنفاق حزب الله تشبه مدنًا عميقة تحت الأرض، فهي حقا "مدن الصواريخ" كما أشارت إليها السفارة الإيرانية في لبنان تعليقًا على فيديو المنشأة "عماد 4". وتحتوي هذه الأنفاق على مراكز للقيادة والتحكم ومستشفيات ميدانية ومستودعات للأسلحة والذخيرة ومنصات لإطلاق الصواريخ، وقد صممت فوهات هذه الأنفاق بطرق مموهة بحيث يصعب الكشف عنها.
أنفاق تربط بين القيادة والميدان
وبحسب تقرير مركز ألما الإسرائيلي، تربط شبكة الأنفاق بين 3 مراكز عملياتية مهمة، هي مقر حزب الله الرئيسي في ضاحية بيروت، والمواقع الدفاعية في الجنوب اللبناني، ومركز العمليات اللوجستية في منطقة البقاع.
لذلك قد تُفضل فيه إسرائيل حسم معاركها عن طريق الجو والمسيّرات المتقدمة التي تمثل جيشا بلا جنود، تجد نفسها في مواجهة سلاح الأنفاق الذي لا تمكن مواجهته من السماء، بل يتطلب تدخل قوات برية وتنفيذ عمليات تحت الأرض. نستطيع أن نرى هذا بوضوح في الحرب اللبنانية الثانية عام 2006، إذ سيطر حزب الله على فضاء جوف الأرض في لبنان، حتى أصبحت المعارك تدور في ساحتين متوازيتين.
زادت الأنفاق من مرونة حزب الله في المواجهات البرية، واستخدمها في إعداد الكمائن المركبة وشن الهجمات على قوات جيش ، خاصة سلاح المدرعات الذي لاقى مقاومة شرسة في بلدتي بنت جبيل ومارون الراس. وشملت الروايات المتداولة عن حرب لبنان عام 2006، قصصًا عن خروج مقاتلي حزب الله من تحت الأرض فجأة ليطلقوا صواريخهم المضادة للدبابات في عمليات خاطفة ويعاودوا الاختفاء، فيما عرف باسم "مجزرة الدبابات".
كما ساعدت الأنفاق قوات حزب الله في ذلك الوقت على إخفاء نحو 1500 منصة لإطلاق الصواريخ، كان من الصعب على سلاح الجو الإسرائيلي تحديد مواقعها، لا سيما أن نظام تحديد المواقع العالمي لا يعمل تحت الأرض، وعادة ما تلجأ قوات المقاومة إلى رسم الخرائط اليدوية والاعتماد على البوصلات في تحركاتها.
إضافة إلى ذلك، مكنت الأنفاق حزب الله من تخزين العتاد والأسلحة والغذاء والماء؛ مما جعل المقاتلين قادرين على مواصلة الحرب أسابيع دون الحاجة إلى إمدادات إضافية. يقول أحد جنود جيش الإسرائيلي عن حرب تموز 2006: "كنا نتوقع أن نرى خيمة و3 بنادق كلاشينكوف"، مضيفا أنهم فوجئوا بأبواب فولاذية تقود إلى شبكة متشعبة من الأنفاق تحت الأرض، وأسلحة مدمرة وصواريخ، ومقاتلين مدربين تدريبًا عاليًا.
وفي ورقة بحثية صدرت في نيسان/ إبريل عام 2014، أعدها فريق تقييم التهديدات المختص بدراسة بيئة العمليات المعقدة والتهديدات التابع للجيش الأميركي (CTID)، أشار الفريق إلى أن الأنفاق أدّت دورًا حاسمًا في انتصار حزب الله في حرب 2006، واعتبر أن الأنفاق كانت العنصر الرئيسي في خطة حزب الله الدفاعية، وأنهم عملوا على استغلال هذه البيئة الجوفية إلى أقصى درجة في معاركهم؛ مما وفر مستوى عاليا من الحماية ضد الأسلحة والأساليب الاستخبارية الحديثة في جمع المعلومات، كما كانت الأنفاق قادرة على تحمل القصف الجوي والمدفعي، والنتيجة أن الجيش الإسرائيلي عجز عن تحقيق أهدافه المعلنة من الحرب، وأهمها نزع سلاح حزب الله وتدمير قدراته.
الجولة الحالية
"الجيش الإسرائيلي الذي لم يستطع القضاء على حماس، بالتأكيد لن يكون قادرًا على تدمير قدرات حزب الله، التي تفوق قدرات حماس مئات الأضعاف".
هكذا عبر اللواء الاحتياطي في الجيش الإسرائيلي، يتسحاق بريك، في أيلول/ سبتمبر الماضي، عن تقديراته للحرب البرية على لبنان التي كانت تلوح في الأفق آنذاك، وذلك في مقال نشره بصحيفة هآرتس الإسرائيلية. وأضاف بريك أن الجيش الإسرائيلي الذي عانى من التدهور مدة 20 عامًا لا يمكن أن يكون جاهزًا لخوض مثل هذه المعركة، وحتمًا سيغرق في حرب استنزاف لا نهاية لها في مستنقع الشمال.
في المقابل يعمل حزب الله حاليًّا على تجربة تكتيكات عسكرية جديدة، كما اختبر منظومات الدفاع الجوي الإسرائيلي أكثر من مرة في استهدافات دقيقة للغاية، كان آخرها استهداف منزل رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو في قيساريا عن طريق مسيّرة يصعب رصدها واعتراضها من قبل أنظمة الدفاع التقليدية، إذ عادة ما تكون هذه الأنظمة مصممة لاعتراض الصواريخ الباليستية، التي تتبع خلال رحلتها مسارًا محددًا.
في الوقت ذاته نشر الحزب عدة مقاطع مصورة خلال الأسابيع الماضية، لطائرات استطلاعية توثّق مسحا لمواقع إسرائيلية حيوية، مدنية وعسكرية واقتصادية، وقد شملت عمليات المسح هذه عدة مناطق بينها مدينة حيفا. وبالتالي لم تعد الأنفاق العامل الحاسم إستراتيجيا في استمرار قدرات الحزب على الدفاع الفعال، ونجاح الجيش الاسرائيلي في تدمير بعضها لن يغير شيئًا جوهريا في قواعد اللعبة.
رغم ذلك يظل سلاح الأنفاق أحد عناصر قوة حزب الله على المستوى العملياتي والتكتيكي، لا سيما في العمليات البرية، ويمنح المقاتلين مزايا، أهمها التسلل خلف خطوط العدو والمباغتة والقدرة على إعداد كمائن محكمة، وهو ما يجعل معركة برية طويلة الأمد كابوسا حقيقيا لإسرائيل.
ويمكن قراءة التقارير المتواترة حول اقتراب العملية البرية الإسرائيلية في لبنان من نهايتها، إذ ترغب إسرائيل في إنهاء الحرب، بعد أن حققت انجازات كبيرة عبر موجة اغتيالات طالات قيادات الصف الأول في الحزب وهجوم البيجر الذي أضعف حزب الله بشكل كبير، اضافة الى ضرب مستودعات الاسلحة في الضاحية والبقاع وعند الحدود مع سوريا.