العلم هو الجائزة الحقيقية للتعليم المتميز والبحث الدؤوب، ولقد مرت أهمية العلم فى بلادنا بمراحل مختلفة ارتبطت أولاها بتأثير الدراسات النظرية على العلم الحديث، وكان تاريخ العلوم هو مقدمة التواصل بين الفكر والعلم معًا، وقد عنيت كثير من الدراسات التاريخية بظواهر التقدم ونظريات التطور إيمانًا منها بأن العلم الحديث هو أسرع الطرق لتحقيق أهداف المجتمعات البشرية فى حياة أفضل، ولم يكن الأمر سهلاً بالطبع عبر كل مراحل التاريخ والتحولات البشرية التى تتغير فكان هناك موجات صعود وهبوط فى مختلف الأمم والشعوب، وفى مصر على سبيل المثال ازدهرت الدراسات الأدبية فى النصف الثانى من القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، فبدأ الحديث عن كلية الحقوق باعتبارها البوابة الذهبية للمناصب الوزارية وأقبل عليها النابهون فى حماس واضح، وعندما قامت ثورة يوليو 1952 ومع بدء الحديث عن الدولة العصرية التى تأخذ بأسباب التكنولوجيا الحديثة والعلوم المتقدمة وجدنا أمامنا سبيلاً للدراسات العلمية المتخصصة، خصوصًا فى مجالات الطب والهندسة والصيدلة، حتى جرى إغراق سوق العمل بكفاءات نادرة فى المجالات العلمية المتخصصة وأقبلت الأجيال الجديدة على القسم العلمى فى مراحل الثانوية العامة، وأصبح هناك تسابق محموم بين الفتيان والفتيات للالتحاق بالكليات العلمية، باعتبارها وكأنها موضة العصر، وتواكب ذلك مع برامج الدولة للتصنيع الثقيل والخفيف والمضى على طريق دعم الثروة العقارية، وحسبنا أن ذلك الأمر سوف يتنامى مع معدلات الصعود فى مجالات البحث العلمى وتطوير الرؤى فى كافة الاتجاهات المتصلة ببناء الدولة الحديثة، ولكن حدث ما يصعب تفسيره إلا بالاعتراف بتراجع دور الطبقة الوسطى فى مصر فى السنوات الأخيرة، فقد تزايد الإقبال فى العقود الأخيرة على الكليات النظرية ومعاهد الحاسب الآلى دون ولوج طريق البحث العلمى، فى المقابل لاحظنا تراجع الإقبال على الكليات العملية خصوصًا العلوم والزراعة، وأصبحنا أمام مشهد عكسى لمسار حركة العلم والتعليم على المستوى الدولى، ولعل المبرر القوى لتفسير ذلك الاتجاه هو سهولة الدراسة النظرية نسبيًا وعدم ارتباطها بالحضور المكانى والاكتفاء بزيارات قليلة للكلية النظرية على مدار العام، ورغم الموجة الكبيرة لإنشاء عدد من الجامعات العصرية فى مصر إلا أنها وقعت فى خطأ شبيه بما يدور حولها فاستقبلت أعدادًا كبيرة من الكليات النظرية مكررة قد لا تكون الخطط التنموية بحاجة إلى خريجيها، وبدأ البعض يدق ناقوس الإنذار ويطالب بالعودة إلى الدراسات العملية المرتبطة بخطط التنمية وحاجة المجتمع فى ظل انصراف واضح عن المواد العلمية والعملية، وفى مقدمتها الفيزياء والكيمياء، على عكس المسار الذى كان سائدًا حول منتصف القرن الماضى، وأنا أتذكر حاليًا أننى اخترت القسم العلمى –رغم تفوقى فى الدراسات الأدبية – وتخصصت فى علم الفيزياء، وعندما جاء وقت الالتحاق بالجامعة غلب الطبع على التطبع فالتحقت بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية وهى كلية تتأرجح بين الاتجاهين النظرى والعملى، أى بين الفكر والعلم، وألاحظ حاليًا من خلال عضويتى للمجلس الأعلى للثقافة ضعف الإقبال على جوائز الدولة التشجيعية وانصراف الأجيال الجديدة عن التسابق فى مجال البحث العلمى، ومازلت أتذكر ماكان يقوله لى صديقى الراحل العالم الكبير أحمد زويل معلقًا على الاكتشافات العلمية وتطوير الأجهزة الحديثة على الساحة الأمريكية إن ذلك يحدث من خلال أبحاث مجموعات من الشباب والشابات فى أماكن متواضعة قد يكون بعضها (جراجات) السيارات فى البنايات الكبيرة، فالهوس بالبحث العلمى أصبح ظاهرة عصرية وعلامة واضحة على التقدم، وليس كما هو الحال فى بلادنا من الانصراف إلى الدراسات النظرية والابتعاد عن العلوم البحتة، وقد ارتفع صوت الرئيس السيسى فى إحدى المناسبات منبهًا إلى ظاهرة جاذبية العلوم النظرية واستسهال دراستها على حساب الأبحاث العلمية والتخصص فيها.
لذلك فإننا من جانبنا اليوم ندعم من منطلق وطنى ومن خلال فهمنا المشترك للحالة المصرية وحاجات التقدم فيها وضرورة السعى وراء الارتقاء بالأداء فى مجالى الانتاج والخدمات إلى تعزيز وجهة النظر الداعية إلى الدفع بالفتيان والفتيات مع بداية المرحلة الثانوية إلى الاتجاه العلمى حتى لو كان الأدب هواية صاحبه. وهنا أنبه أنه لا تناقض بين الفكر والعلم، فالطبيب الأديب والمهندس الفنان وباحث الكيمياء والفيزياء الذى يهوى الموسيقى هم فى مجموعهم أفضل من أحادية المعرفة والتجمد فى قاعات الدراسة النظرية دون اقتحام علوم المستقبل ودراسات الغد، ومصر مؤهلة بالملايين من أبنائها النجباء لكى تتمكن من تحويل هذا الكم الكبير إلى كيف فعال مؤثر فى المنطقة كلها. لأن الكنانة كانت دائمًا مصدر إشعاع للقوى الناعمة على مر العصور.
الأهرام