طغت الأحداث الأخيرة في العراق على المشهد السياسي الإقليمي والدولي، وتقدمت صور المعارك العسكرية في المنطقة الخضراء وسط بغداد، بين الفصائل الشيعية الموالية لزعيم التيار الصدري مقتدى الصدر من جهة وبعض فصائل الحشد الشعبي الموالية لإيران من جهة أخرى، على عناوين الأخبار في الفضائيات والصحف العربية والدولية، في مؤشرٍ خطير قد يدفع العراق للانزلاق مجدداً نحو أتون الحرب الأهلية، بعد أشهرٍ من انسداد أفق الحل في المشهد السياسي بالبلاد، وتعثّر انتخاب رئيس للجمهورية، وتشكيل حكومة جديدة، نتيجة تعنّت خصوم الصدر من "الإطار التنسيقي" الموالي لإيران، الذين رفضوا الاعتراف بنتائج الانتخابات التشريعية التي فاز فيها الصدر وحلفائه بأكبر تكتل نيابي.
وإذ شكّلت مواقف الزعيم الشيعي الشاب ومبادراته المختلفة محور الحركة السياسية في الأشهر الأخيرة، فإنّه قدّم صورتين متناقضتين باندفاعه الأقصى نحو التغيير والإصلاح عبر حركة سلمية، ومن ثم إعلانه الانسحاب الكامل من الحياة السياسية، كما قال في تغريدةٍ عبر حسابه على "تويتر"، "اعتزال العمل السياسي، وغلق المكاتب التابعة لتياره".
ما جرى في الأيام الماضية لا يحمل إجابة مباشرة عما إذا كانت الحالة الصدرية ستستمر في عراكها مع الاتجاهات الشيعية الأخرى الموالية لإيران بأشكالٍ جديدة، أو أنّها ستكون على مستوى من الثبات في مواقفها، أو الانسحاب الكامل، كما أعلن الزعيم الشاب قبل انفلات المشهد في المنطقة الخضراء، حيث دعا مؤيديه إلى الانسحاب التام من المواجهات التي وقعت بينهم وبين فصائل شيعية أخرى موالية لإيران وقوى أمنية أوقعت 23 قتيلاً. الصدر، بعد أن قال، "إنّ البلاد رهينة للفساد والعنف"، أضاف: "سأتبرأ من أنصار التيار الصدري إذا لم ينسحبوا من الاعتصام خلال ساعة". ولا شكّ في أنّ حسابات الربح والخسارة هي التي دفعت الصدر لحجب الدماء ووقف الانزلاق نحو الصراع المسلح والانسحاب من الساحات، بعدما وردته معلومات من داخل الإطار التنسيقي المتحالف مع إيران عن تشكيل غرفة عمليات من مندوبين للحرس الثوري مع قادة بعض فصائل الحشد الشعبي، ووضع بنك أهداف شامل لمستودعات الذخيرة ومقرات الموالين للصدر، وحصارها من مختلف الجوانب، في رسالة تحمل رغبة الحرس الثوري تقويض دور الصدر وقوة تأثيره في الساحة العراقية، سيّما وأنّ الصدر اتّخذ، ومنذ شباط الماضي، مجموعة مواقف لمعالجة الأزمة البرلمانية رافضاً الامتثال للأوامر الإيرانية، وأعلن في أشكالٍ مختلفة أنّه عراقي وأنّه عربي، وأنّه لا يريد تدخل أي جهة إيرانية في بناء السلطة السياسية في العراق، كما واكب مواقفه هذه بعلاقات مباشرة مع الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية، ودعمٍ متين لمواقف رئيس الحكومة، مصطفى الكاظمي، في خطوته الانفتاحية على كلٍ من القاهرة وعمّان، والرياض التي كانت شديدة التأثير في الشأن العراقي الداخلي.
وممّا لا شكّ فيه أنّ الأحداث الأخيرة فرضت على الأطراف السياسية في العراق مراجعة حساباتها، ومراجعة اتّجاهاتها المستقبلية، وكيفية إدارة الأزمة، سيّما وأنّ انسحاب الصدر وحجب الدم كشف، بما لا يدعو للشك، أنّ الحشد الشعبي الموالي لإيران لا يتردّد بفتح النار على العراقيين، ولا يتردّد في التهديد بحربٍ شيعية – شيعية، حتى يجبر خصومه على التراجع، سواءً كانوا من الصدريين أو من السنّة أو من الأكراد، تحت وطأة مفاعيل اندلاع حرب أهلية، وإجبارهم على تقديم التنازلات. لذلك، ومن خلال ما جرى على الأرض وخلف الكواليس، لا بد من الإشارة إلى قضيّتين مهمّتين:
1 – لا تمتلك إيران في العراق سياسة موحّدة. فالمعلومات تشير إلى أنّ الحرس الثوري يعمل في اتّجاه، والسفارة الإيرانية في بغداد تعمل في اتّجاه آخر، وجهاز الأمن الإيراني القديم (سافاك) يعمل في اتّجاه ثالث. وبالتالي فإنّ فكرة توحيد الجهد للفصائل الموالية لإيران على سياسة منتظمة وإيقاع منتظم أصبحت قضية صعبة من زاوية عدم قدرة إيران على إدارة دفة الصراع بالطريقة السابقة، وتعدّد مصادر القرار الميداني الإيراني. وهذا ما كشفت عنه الأحداث مؤخراً، حيث يُشاع بأنّ قسماً من الحشد الشعبي، بقيادة هادي العامري، لا يريد الدخول في الحرب ضد الصدريين، وأنّ قسماً من السفارة الإيرانية في بغداد هو من نبّه الصدر لخطة الحرس الثوري في الهجوم على مراكز ومواقع ومؤسّسات ومخازن ومستودعات تيّاره في العراق. وقد يكون ذلك أيضاً بمثابة توزيع أدوار لإبقاء الساحة العراقية رهن أزمات محلية ترتبط بيد إيران.
2- بالمقابل لم يرقَ الاهتمام الأميركي إلى طبيعة الحدث العراقي والاكتفاء بإشارات دبلوماسية تبدو على غرار نصائح شبيهة بإشارات الأمم المتحدة والمنظمات الدولية، على الرغم من أنّ بعض الآراء الأميركية ترى في مقتدى الصدر حصان الرهان على تراجع النفوذ الإيراني في العراق، دون أن يُترجم ذلك في أي سياسة وازنة وفاعلة. بدليل أنّه، وفي ظل تصاعد وتيرة الأحداث وتصاعد الحملة الصدرية وتحركاتها السلمية، لم يحرّك البيت الأبيض أي ساكن له علاقة بالملف العراقي، ولم يقدم أي مقترح، ولم يذهب أي مندوب من الإدارة الأميركية لمناقشة أوضاع العراق على قاعدة الأولويات الأميركية والانسحاب النفسي من الدور السياسي في الملفات الشرق أوسطية.
وسواءً تمّ التوقيع على اتّفاق أميركي – إيراني حول الملف النووي أو لم يتم، فإنّ التقدير العام لمجرى الأحداث يشير إلى أنّ إيران ذاهبة نحو مزيد من التصعيد في منطقة الشرق الأوسط. وهذا التصعيد اصطدم نسبياً بحسابات مختلفة في العراق من زاوية أنّ الحركة الصدرية جاءت استباقية في وجه إيران وليس العكس. وبالتالي، إذا كانت إيران جاهزة للتصعيد فإنّها في العراق أخذت موقع الدفاع والإرباك، وهذا ما يمكن الاستفادة منه في أكثر من ساحة أخرى، وما يمكن البناء عليه أيضاً بحيث لم تعد المبادرة في يد طهران. فعندما تتحرك القوى المحلية على أجندة متماسكة في مواجهة طهران تكون قادرة على تغيير المعادلة، لذلك فإن الخبرة العراقية تقول بأنّ العامل الداخلي له دور رئيسي في انتزاع المبادرة من الإيرانيين، ودفعهم إلى البحث عن حلول من موقع الدفاع عن سياساتها.
وعلى الرغم من التعامل مع الحدث العراقي ببُعده الإقليمي، فالتراكم الذي أحدثته سياسات الرئيس مصطفى الكاظمي في العلاقات مع مصر والسعودية والأردن والإمارات والبحرين، قد فتح النوافذ لأي نفس عراقي يريد التحرر من الهيمنة الإيرانية، وإعادة بناء الهوية العراقية، بما هي هوية وطنية على مقاس شعبٍ عريق وأصيل في وطنه، ويملك من الثروات ما يجعله سيداً وحراً ومستقلاً.
لذلك فإنً الحدث العراقي الحالي هو حدثٌ مؤسّس في المرحلة المقبلة وفي حركة الصراع ما بين دول محور الاعتدال العربي، وبين إيران التي تريد ليس تخصيب اليورانيوم النووي فقط بل تخصيب الحالة المذهبية الشيعية في البلدان العربية، بما هي حالة تابعة لها في مواجهة منطق التاريخ، والجغرافيا، والعروبة، ومواجهة منطق الحالة الوطنية لكل دولة.
فوزي أبو دياب - الأنباء