توفي السياسي الفرنسي جان ماري لوبان أحد أبرز رموز اليمين المتطرف، عن عمر ناهز الـ96 عاماً،اليوم الثلاثاء.
برحيل جان ماري لوبان، يكون اليمين المتطرف الفرنسي قد فقد أحد الوجوه التاريخية لمعسكره السياسي. وتوفي لوبان، وهو مؤسس حزب "الجبهة الوطنية" المتشدد قبل أن يتحول اسمه إلى "التجمع الوطني"، الثلاثاء عن 96 عاما.
وقالت عائلته في بيان إن لوبان توفي ظهر الثلاثاء، محاطا بعائلته.
وفرض لوبان اسمه وحزبه أيضا في الساحة السياسية الفرنسية لأربعة عقود، عرف فيها بخطابه الشعبوي، وقام خلالها بإحياء أفكار اليمين المتطرف التي واراها الغبار بعد سقوط الماريشال بيتان في 1944.
انطلاقا من 1970، وظف لوبان الماضي الاستعماري الفرنسي لبناء أفكاره القومية، والتي رفعها مع مرور الوقت إلى أعلى المستويات. وتحت ألوان "الجبهة الوطنية"، خاض حامل شعار "فرنسا للفرنسيين" الانتخابات الرئاسية في المحطات التالية: 1974، 1988، 1995، 2002، ثم 2007، وكانت مشاركته ما قبل الأخيرة أكبر مفاجأة حققها اليمين المتطرف حينها بوصوله إلى الدور الثاني جنبا إلى جنب مع الرئيس الراحل جاك شيراك.
وهذه المحطة اعتبرت انطلاقة حقيقية لليمين المتطرف نحو التواجد بقوة في المؤسسات المنتخبة. لكن زعيم "الجبهة الوطنية" غادر مركز قيادة الحزب وتسلمت ابنته مارين لوبان المشعل خلفا له.
امتحانات الحياة
ولد لوبان في 20 يوليو/حزيران 1928 بـ"لا ترينيت سور مير" في منطقة بريتاني الفرنسية. نشأ الزعيم الراحل لليمين المتطرف في أسرة كان ابنها الوحيد. كان أبوه يمتهن الصيد، لكن بعد وفاته اضطرت والدته إلى العمل في الخياطة لتأمين الحاجيات الأساسية للأسرة.
منذ نعومة أظافره، لم تكن طريقه مفروشة بالورود، واجه الكثير من امتحانات الحياة، كان أولها فقدان والده وهو في عمر 14 عاما نتيجة انفجار لغم تم جره بشبكة صيد في عرض البحر.
في نوفمبر/تشرين الثاني 1944، طلب وهو تلميذ في الـ16 من عمره يحظى بمنحة دراسية، بعزم التجنيد في القوات الفرنسية الداخلية. لكن العمر وقف حاجزا أمامه. "من الآن فصاعدا، أعطي الأمر للتأكد من أن أعمار المتطوعين الجدد 18 عاما فما فوق. فأنت تحت رعاية الدولة، فكر في أمك"، قال له حينها الكولونيل هنري دو لا فيسيير، الرئيس العسكري للقوات الفرنسية الداخلية في منطقة "لوار إي شير".
وأمام هذا الرفض، لم يكن أمام هذا اليافع سوى مواصلة دراسته في إعدادية يديرها رجال دين. هؤلاء، حسب تصريحاته، منحوه نظام الفكر وطعم الخطابة. لكن مسار هذا التلميذ، العنيد والمتمرد، كان مليئا بالاضطرابات. وتعرض للطرد في مناسبتين من مؤسستين تعليميتين في 1946 بسبب عدم الانضباط. وعلى مدرجات كلية الحقوق في باريس ثم العلوم السياسية، لم يحد لوبان عن تمرده.
لتمويل دراسته الجامعية، كان مجبرا على أن يعمل في مهن شاقة. وبنفس الوقت دخل عالم السياسة من باب جمعية طلاب القانون في 1949. وكان أيضا ضمن مسيري نقابة الطلاب المعروفة "يونيف". وهنا، شحذ أدواته في فن الخطابة، ومواهبه في إلقاء الخطب بدأت تثير انتباه الجميع.
بعد عدة انتقادات وجهت إليه بسبب جملة من التجاوزات، دُفع به في 1952 خارج رئاسة جمعية الطلاب، واحتفظ على مضض بصفة الرئيس الفخري للجمعية.
زمن الغدر
مع النجاحات الانتخابية اندلعت التوترات داخل صفوف هذا التنظيم السياسي. ففي نهاية 1998، انسحب المندوب العام لـ"الجبهة الوطنية" برونو ميغري من الحزب ليغادر معه عدد من الأطر والمنخرطين وهو ما أضعف التنظيم. وهذه الصراعات الداخلية، دفع الحزب ثمنها غاليا في الانتخابات الأوروبية 1999، إذ تراجعت "الجبهة الوطنية" إلى 5,7 بالمئة من الأصوات فحصلت على خمسة مقاعد فقط.
وكطائر فينيق حقيقي في الحياة السياسية، عاد جان ماري لوبان من جديد لفرض اسمه كمنافس قوي أمام كبار المرشحين للانتخابات الرئاسية في استحقاقات 21 أبريل/ نيسان 2002، وتأهل للدور الثاني من هذه الانتخابات مقصيا المرشح الاشتراكي ليونيل جوسبان، إذ حصل على 4,8 مليون من الأصوات بما قدره 16,9 بالمئة. وهذه النتيجة نقلت الحزب إلى مستويات متقدمة من الحياة السياسية الفرنسية. وأمام هذا التقدم شكلت الأحزاب التقليدية "جبهة جمهورية" لوقف زحف لوبان نحو الإليزيه. لكن حتى متى؟
في الانتخابات الرئاسية 2007، فشل جان ماري لوبان في تجديد إنجاز 2002. وعاد الفوز إلى مرشح اليمين التقليدي "الاتحاد من أجل حركة شعبية" نيكولا ساركوزي الذي تحرك بدون حرج في خطاب غير معهود من صفه السياسي على أرضية اليمين المتطرف، ليكسر هيمنته على ملفات الهجرة والأمن، ويكسب الانتخابات، مضعفا بذلك حزب جان ماري لوبان الذي اكتفى بالموقع الرابع في هذا الاستحقاق.
الوريثة "تقتل" الأب
مع تقدمه في السن، أعلن الزعيم التاريخي لليمين المتطرف الفرنسي في 9 أبريل/نيسان 2010 أنه لن يتنافس على رئاسة "الجبهة الوطنية" مجددا، كما أنه لن يترشح للانتخابات الرئاسية 2012. وبإعلانه "تقاعده" السياسي، قدم لوبان دعمه لابنته مارين لأخذ المشعل من بعده. تربعت الابنة على عرش التنظيم خلفا لوالدها في يناير/كانون الثاني 2011، فيما تقلد هو منصب الرئيس الشرفي للحزب.
هذا التقارب الحزبي بين مارين لوبان ووالدها لم يدم سنوات طويلة. فابتداء من 2015 بدأ يشكك في الحملة التي أطلقتها لتحسين صورة التنظيم، وعاد ليكرر تصريحاته حول إنكار المحرقة النازية، ليجرد من منصب الرئيس الشرفي ثم يطرد من الحزب في 20 أغسطس/آب 2015.
ووصلت القضية إلى القضاء الذي أعاد لوبان الوالد إلى منصبه، وحافظ في نفس الوقت على الحق في دعوته لحضور اجتماعات مؤسسات الحزب. لكن مارين لوبان لم تتقبل حضور والدها في مؤسسات التنظيم. وبالتالي تواصلت المعركة القضائية. في 9 فبراير/شباط 2018، غرمت محكمة الاستئناف حزب "الجبهة الوطنية" بدفع تعويض 25 ألف يورو إلى مؤسسه جان ماري لوبان. ولم يتبق أمام ابنته مارين إلا تصفية الحزب للتخلص من أبيها.
وعليه، أسست في 2018 "التجمع الوطني" في منأى عن تصريحات والدها المثيرة للجدل وتصريحاته العنصرية، والمعادية للسامية. ليتحول جان ماري لوبان إلى معلق عادي على الحياة السياسية عند استضافته من حين لآخر في وسائل الإعلام، لكنه ظل محافظا على نبرته اليمينية المتطرفة واستفزازاته حتى آخر رمق من حياته.