عادت المياه إلى مجاريها في الثانويات الرسمية، أمس، وسبقتها المدارس الرسمية في الأسبوع الماضي. عودة «مشروطة بتنفيذ ما وُعدنا به من تقديمات»، يلفت بعض الأساتذة الذين حضروا إلى عملهم كمن «يذهب إلى الشنق»، بعد سحب الغطاء القانوني الذي وفرته الرابطة بإضرابها. في المقابل، هناك عدد لا يستهان به ممن يعارضون الإضراب باعتباره «وسيلة لم تنجح في تحقيق المطالب، بل كانت نتائجها عكسية، فضربت التعليم الرسمي». وفي كلتا الحالتين، لا تظهر علامات الرضى أو الحماسة على وجوه الأساتذة في المدارس والثانويات التي عادت إليها حياة بلا روح.
التزم الأساتذة في التعليم الرسمي الأساسي والثانوي قرار الروابط فك الإضراب، وحضروا إلى عملهم. لا يعني ذلك أن جميعهم راضون عن العودة إلى التعليم. يعتبرون خطوتهم بادرة حسن نية ويترقّبون كيف ستبادلها وزارة التربية والتعليم والحكومة. ويهدّدون «إذا لم يلتزموا تحقيق المطالب وتنفيذ الوعود فسنعود إلى الإضراب»، هذا رأي فئة من الأساتذة الذين عادوا «رغماً عنهم».
يعيد الناظر العام في ثانوية حسين مكتبي الرسمية وائل زعيتر ذلك إلى «انتفاء غطاء قانوني للتحرّك المنفرد ما يمنعنا من التمرّد على قرار الرابطة، ويعرّضنا للمساءلة»، وبما أنه «ما من جدوى لإضراب فردي»، يمارس زعيتر عمله. وانطلاقاً من عدم ثقة عدد من الأساتذة في الثانوية بقرار الرابطة «التي ينخر فيها التسييس»، نفذوا وقفة احتجاجية خلال الحصة الأولى.
في مدرسة وثانوية شكيب إرسلان المختلطة صخب يصاحب الأيام الأولى للتعليم. المباني الثلاثة الكبيرة والمضاءة تعجّ بالأساتذة والطلاب، والملصقات تغزو الجدران ترحيباً بالطلاب المتحمسين للعودة، وتوزيع الحلوى في الممرّ احتفالاً. إلا أن المشهد يغرّ، لأنه يخفي خلفه هواجس الأساتذة وتعبهم. تتحدّث مديرة الثانوية وسيلة يموت عن «تململ الأساتذة من العودة». هنا تتدخل ناظرة وتعبّر عن شعورها «بالغبن»، متأسّفة من «استدانة بعض الأساتذة ثمن البنزين للوصول إلى الثانوية».
مع كسر الإضراب
على المقلب الآخر، قسم من الأساتذة مؤيّدون للعودة إلى التعليم، لأنهم أصلاً كانوا ضد الإضراب، مثل الأستاذة درية فرحات التي تدخل إلى غرفة الناظر في ثانوية حسين مكتبي على استعجال لتلحق بصفها في إحدى الجامعات في صيدا، وتكسر هدوء المبنى الذي تسكنه العتمة بصوتها العالي. تقول ضاحكة: «خلافاً لرأي الناظر والمدير في الثانوية، أنا مع العودة لأن الإضراب يضرب التعليم الرسمي ويضرب حق جميع الطلاب في التعلّم بدلاً من البقاء في الشارع». تعرف أن الحوافز الاجتماعية لم توزّع بشكل منتظم في العام الدراسي الماضي، وهناك من لم يرَ شيئاً منها، ولم يقبض بدل النقل، ولديها هواجس من عدم أخذ المستحقات التي وُعدت بها، لكنها لا ترى الإضراب وسيلة ناجحة لتحقيق المطالب.
أحد الأساتذة في مدرسة برج البراجنة الثانية ضد الإضراب أيضاً لأن «الشعب يقول ما يريد والدولة تفعل ما تريد». لكنه يلفت إلى أن «عودته إلى التعليم منذ أسبوع مرهونة بتحقيق المطالب»، أما إذا نكثوا بوعودهم «فسنضرب ليس محبّة بالإضراب، بل لافتقادنا القدرة على الصمود».
نزوح من الرسمي
يتفق كثير من الأساتذة على أن الإضراب كان له ارتدادات عكسية وساهم في محلّ ما بضرب التعليم الرسمي. وتؤكد ذلك أرقام انسحاب الطلاب من المدارس والثانويات الرسمية المرتفعة. إذ سحب 25% من الطلاب في ثانوية حسين مكتبي إفاداتهم، ولم يسجّل غير نحو 300 طالب هذا العام، بحسب زعيتر. كما تراجع عدد الطلاب في مدرسة برج البراجنة الثانية، «فهناك 100 طالب سحبوا إفاداتهم من أصل 550»، بحسب الناظر العام فادي المولى، الذي يشير بناءً على حديثه مع الأهالي، إلى أن «النزوح من المدرسة كان باتجاه القرى وباتجاه مدارس رسمية أقرب إلى المنزل لتفادي تكلفة المواصلات، أما العامل الأساسي فهو النزوح إلى المدارس الخاصة».
نتيجة تراجع عدد الطلاب في مدرسة شكيب إرسلان من 1100 طالب في السنة الماضية إلى 850 هذا العام، تراجع عدد الشعب من 39 إلى 33 في «المدرسة ذات الصيت الجيد جداً والتي كان يقصدها الناس من مناطق بعيدة»، على حدّ قول المدير علي خطّاط، كما خسر أساتذة متعاقدون ساعات عملهم. لذا يعارض خطّاط الإضراب المفتوح «لأنه أضرّ أكثر ممّا فاد وأخذ الطلاب رهائن»، متحدّثاً عن طرق أخرى للاعتراض مثل مقاطعة الامتحانات الرسمية مراقبةً وتصحيحاً مثلا.
تتعجب معلمة من عدد الطلاب القليل في أحد صفوف ثانوية شكيب إرسلان، «يبدو الصف فارغاً»، وتشكو للمديرة: «خسارة الكثير من الطلاب»، فتردّ المديرة بالإيجاب، «تراجع العدد 25% عن السنة الماضية».
لم يصمد بعض الأهالي إذاً أمام قلقهم على مستقبل أولادهم وعدم ثقتهم بأنه سيكون هناك عام دراسي ما دام الأساتذة بدأوه بالإضراب، فتوجّهوا إلى المدارس الخاصة كلّ حسب قدرته، إلا أن الأساتذة لم ينسحبوا من الوظيفة وأظهروا قدرة على الصمود، وفق إدارات المدارس. تعدّدت الأسباب لذلك، البعض يتحدث عن عمر قضاه في المدرسة يجعل التخلّي اليوم في ظل ظروف صعبة «خيانة»، والبعض الآخر يتحدّث عن استمراه في حب المهنة رغم كلّ التحديات، وهناك من يعترف بأنه «ببساطة ليس هناك فرص بديلة أفضل».
مخاوف الطلاب
الطلاب هم دائماً الحلقة الأضعف. يبدو الصغار سعداء وبحماسة عالية، فيما يعتري التوتر وجوه الكبار ولا سيما طلاب الشهادة الثانوية الرسمية. ينقلون مخاوفهم وقلقهم من عدم تلقي جميع الكفايات وبتر المناهج. هم أصلاً اجتازوا امتحانات البريفيه بإفادات. لا يخافون إلغاء الامتحانات، بل إجراءها مع فروقات تعليمية بين طلاب الخاص والرسمي. وهناك من يخاف من إلغاء المواد الاختيارية. يقول أحدهم: «حاولنا الذهاب إلى مدارس خاصة، لكن الوضع الاقتصادي لم يسمح»، ويجمعون ضاحكين: «لو أن التعليم الخاص مجانيّ لما كان أحد منّا هنا».
زينب حمود - الأخبار