قد يتهمنا البعض بالتحامل لحظة الحديث عن نهاية "حزب الله"، وقد يطعن البعض الآخر بهذه السردية انطلاقاً من استنادها إلى ما نشتهي ونتمنى لا إلى الواقع والوقائع، فيما يذهب آخرون إلى المكابرة حد النكران، وهذا طبيعي ومفهوم، بعد عقود من التعبئة والأدلجة والتدجين.
لكن، ثمة سؤال مركزي لا بد من الإجابة عليه، بالعقل والمنطق والتفصيل، بعيداً من الموقف السياسي أو العاطفة الشخصية: هل انتهى فعلاً "حزب الله"؟
"حزب الله" هو جزء من نفوذ إيران الاستراتيجي في المنطقة، بل هو نفوذها المطلق، وجميع من يعملون في الدائرة نفسها، هم في الحقيقة امتداد طبيعي لـ"حزب الله" ولتجربته وخبرته وقدرته على التأهيل والتدريب، ما يعني أن "حزب الله" هو حجر الزاوية ليس في السيطرة على لبنان وحسب، بل في القبض أيضا" على أربع عواصم عربية، وقد كان لهذا المشروع رأس إيراني استثنائي هو قاسم سليماني، ورأس عربي أكثر استثنائية هو السيد حسن نصر الله، وقد بُنيت كل المنظومة المترامية على مساحة الجغرافيا العربية لتكون امتداداً لهذا المشروع، وكان لا بد من شخصية سنية تصير بمثابة ورقة النعناع التي تزين صحن الحمص، وتمنحه شرعيته القصوى، وقد وجدوا ضالتهم في مغامر فلسطيني لا يقل عنهم استثنائية يُدعى يحيى السنوار، وهنا تماماً اكتمل النصاب وتورّمت الرؤوس.
اغتيال قاسم سليماني قبل سنوات ترك ندوباً عميقة في المحور برمته، لكن الأمين العام لـ "حزب الله" استطاع في وقت قياسي أن يملأ هذا الفراغ، وأن يعيد ترتيب الأمور برمتها، على نحو جعله القائد الفعلي للجبهة الممتدة من رأس الناقورة في جنوب لبنان، إلى ميناء الحديدة على سواحل البحر الأحمر.
اغتيال نصر الله شكّل بحد ذاته الفاجعة الكبرى، ليس لـ"حزب الله" وحده، ولا للأذرع الممتدة على طول المنطقة وعرضها، بل لإيران نفسها، وهذه الفاجعة ليست من صنف الفواجع التي يُمكن مداواتها أو معالجتها، بل هي من الأصناف القاتلة، التي ما إن وقعت، لا يُمكن بعدها أن تُبقي أو تذر.
استثمرت إيران نفوذها الخشن في المنطقة، وقد شكل "حزب الله" واجهة هذا الاستثمار ودرة تاجه، وحين سقط، سقطت معه استراتيجية إيران التوسعية، وهذا ليس تفصيلاً، ولا حدثاً عابراً، ولا خطباً يُمكن تجاوزه أو المرور عليه مرور الكرام، بل هو حدث مؤسس يكون بعده مختلفاً عما قبله، ومن يظن بخلاف ذلك واهم ومشتبه.
بنت إيران هذه المنظومة على مدى أربعين عاماً، صرفت عليها ما يفوق المئة مليار دولار، رصفتها حجراً فوق حجر، لتكون يدها الضاربة وخط دفاعها الأول عن النظام، لكن سقوط نصر الله، والانهيارات الرهيبة التي سبقت ولحقت سقوطه، أصابت هذه المنظومة بشلل كامل، وهذا ما دفع طهران إلى الدخول المباشر على خط الإسناد، إن عبر إرسال قيادات الحرس الثوري لإعادة ترتيب الوضع الأمني والعسكري، أو عبر تكليف أذرعها السياسية والدبلوماسية بالحج إلى بيروت لمحاولة التقاط الوضع قبل الانهيار الشامل.
كان من المفترض بـ "حزب الله" أن يكون خط الدفاع الأشرس والأقوى، حتى لا تذهب إيران إلى الدخول المباشر على خط الحرب، لكن الواقع جاء بخلاف ذلك، فحين وقعت الحرب الكبرى، سقط "الحزب" بالضربات القاضية خلال مهلة لا تتجاوز عشرة أيام، وقد وجدت إيران نفسها ملزمة بالدفاع عنه وعن نفسها، وهي التي أوجدته أساساً للدفاع عنها، ما يعني أن الوظيفة البنيوية للحزب قد سقطت، ولا إمكانية لتصحيح هذا الخلل أو معالجته.
هل انتهى "حزب الله"؟ الإجابة المجردة هي نعم، انتهى وسقط دوره، وهذا السقوط ليس منوطاً فقط برغبة أميركية إسرائيلية وأوربية وعربية، بل وأيضاً إيرانية، على اعتبار أن أي نقاش مقبل في إيران حول مستقبل "حزب الله" سيفتح الباب أمام خلاصة مكثفة لا بد من التوقف عندها والتمعن فيها، وهذه الخلاصة تتمحور حول محصلة الاستثمار الهائل الذي بدأ منذ ثمانينات القرن الماضي، وكانت نتيجته لا شيء، فهل من الحكمة إعادة التجربة نفسها وانتظار نتائج مختلفة؟
الثابت أن "حزب الله" انتهى، ليس لأن المعادلة اللبنانية الداخلية صارت أقوى منه بأضعاف مضاعفة، ولا لأن إسرائيل استطاعت ضرب قيادته وكوادره وعناصره وبناه التحتية على نحو غير مسبوق، ولا لأن بشار الأسد تعهد بمنع مرور السلاح عبر سوريا، ولا لأن أميركا وأوروبا تبحثان عن استقرار طويل الأمد في لبنان، ولا لأن إسرائيل تسعى لتغيير الوضع الأمني على حدودها لعقود مقبلة، بل لأن إيران نفسها لن تعود إلى سرديتها القديمة التي سقطت تماماً بسقوط نصر الله، ثم بانهيار حزبه، ثم بتداعي المحور برمته، من سوريا التي باعتهم في مزاد عودتها إلى الشرعية العربية والدولية، إلى العراق الذي انسحب من المحور تحت جنح الظلام ووصية أعلى مرجعية للشيعة في العالم، إلى الحوثيين المصدومين والمردوعين والمتحسسين رقابهم، إلى غزة التي اندثرت عن بكرة أبيها، وحماس التي صارت أثراً بعد عين، ويحيى السنوار الذي انتحر عبر عملية فدائية على سجية الموت ولا المذلة.
"حزب الله" انتهى كورقة استراتيجية في المنطقة، وانتهى كحزب مسلّح فائض القوة في لبنان، وانتهى كموطئ قدم لإيران على ضفاف المتوسط، وانتهى كامتداد عسكري للحرس الثوري الإيراني عند حدود إسرائيل، وتحول إلى حزب مثقل بكل هموم الأرض، وهي هموم تفوق قدرته وطاقته، ولن يقوى على معالجتها والخروج سالماً منها حتى إلى ميدان العمل السياسي، حيث ستتقلص قدرته على التأثير، ويستحيل لاعباً عادياً ومجرداً، حاله في ذلك حال أي حزب سياسي في لبنان، وقد علّمنا التاريخ أن الخاسر في اللعبة الإقليمية يخسر تماماً كل شيء.
"حزب الله انتهى"، وهذا التنظيم الحديدي الذي بُني لاجتياح المنطقة، صار بلا دور ولا وظيفة ولا رأس، وهو سيتحول يوماً تلو آخر إلى بيت بمنازل كثيرة.
عرب ميديا