حتى قبل تحديد السبب الرسمي لإحدى أكثر الكوارث الجوية مأساوية في الولايات المتحدة، فإن كافة الدلائل تشير إلى فشل منظومة واسعة من احتياطات السلامة الجوية، في منع اصطدام مروحية عسكرية بطائرة ركاب، في أجواء واشنطن راح ضحيته 67 شخصاً، ومن بين أبرز الأسباب عطل نظام الهبوط الآمن، فضلاً عن فشل النظام المضاد للتصادم، فيما تكشفت «مفاجأة الثلاثاء» التي دقت ناقوس الخطر قبل الحادث بساعات.
ـ الحادث غير المسبوق منذ أكثر من 20 عاماً في الولايات المتحدة، أجج المخاوف بشأن هفوات السلامة الجوية، وأشارت التحقيقات الأولية إلى أن المروحية العسكرية «كانت في المكان والوقت الخطأين»، بينما «كانت طائرة الركاب في طريقها الصحيح للهبوط، وربما لم يشاهد طياروها المروحية بسبب الإضاءة الخلفية. فيما رجح خبراء تعرض المروحية إلى خطأ ميكانيكي، أو أن طياريها رصدوا الطائرة الخطأ، وليست تلك التي تم الاصطدام بها.
ـ كانت المروحية بلاك هوك تقل ثلاثة طيارين من الجيش في مهمة تدريبية، وكان لدى الطيار والمدرب 1500 ساعة طيران معاً، وقضيا العديد من تلك الساعات في نفس الممر الذي كانا يحلقان فيه ليلة الأربعاء. وكان طيار ثالث بالجيش على متن المروحية يقوم برحلة فحص سنوية لتحديد ما إذا كان يمكنه الاستمرار في قيادة الطائرة.
ـ ناقوس خطر الثلاثاء ـ
ـ تشهد الحركة الجوية فوق واشنطن ما متوسطه أكثر من 100 طائرة هليكوبتر يومياً حول وتحت رحلات الطيران، حيث يثير هذا الازدحام الجوي المخاوف بشأن وقوع حوادث، ومن بين المفاجآت أنه قبل نحو 24 ساعة من حادث الأربعاء، اضطرت طائرة أخرى إلى الهبوط في مطار ريجان لتجنب اصطدامها بطائرة هليكوبتر.
ـ الحادث الذي دق ناقوس الخطر يوم الثلاثاء قبل كارثة الأربعاء، جاء عندما أبلغت قمرة قيادة طائرة برج المراقبة في مطار ريجان بوجود طائرة هليكوبتر قريبة منها، ما اضطرها لاتخاذ منعطف حاد، وقامت بالدوران في محاولة للاقتراب مرة أخرى، وهبطت بسلام في الساعة 8:16 مساءً.
ـ أزمة مطار ريغان ـ
ـ يعد المسار حول مطار ريجان أحد أكثر ممرات الحركة الجوية كثافة وتعقيداً في الولايات المتحدة، حيث تحلق طائرات هليكوبتر عسكرية بالقرب من طائرات الركاب والمواقع الرئيسية مثل البيت الأبيض والكابيتول والبنتاغون.
ـ يعمل المطار فوق طاقته الاستيعابية بكثير، حيث تم تصميمه للتعامل مع 15 مليون مسافر سنوياً، لكن الأعداد ارتفعت إلى 25 مليوناً تقريباً. ويوم الأربعاء، أقلعت وهبطت أكثر من 700 طائرة في مطار ريجان.
ـ إضافة إلى المجال الجوي المزدحم، هناك طائرات هليكوبتر تعبر نهر بوتوماك قرب المطار كل يوم، والعديد منها عبارة عن رحلات جوية عسكرية من البنتاغون ووكالات حكومية أخرى تنقل مسؤولين أو ركاباً آخرين وبضائع حول واشنطن. وحذر المسؤولون والطيارون من أن المجال الجوي لا يترك سوى هامش ضئيل للخطأ.
ـ يقع مطار ريجان على مساحة 733 فداناً فقط من الأراضي على طول نهر بوتوماك، على الجانب الآخر من وسط مدينة واشنطن وقاعدة أناكوستيا بولينج العسكرية المشتركة. وتعد المساحة ضيقة للغاية لدرجة أن المنظمين الفيدراليين يوزعون حقوق الإقلاع والهبوط.
ـ على مر السنين، ضغط المشرعون من أجل إضافة المزيد من الرحلات الجوية، وذلك في كثير من الأحيان لتسهيل الرحلات السريعة إلى ولاياتهم. وفي العام الماضي، وبعد جدل حاد حول ما إذا كان المطار يمكنه استيعاب المزيد من الرحلات، وافق الكونغرس على إضافة خمس.
ـ نقص حاد ومهام مختلطة ـ
ـ داخل برج المراقبة بمطار ريجان الدولي، جمع موظف واحد بين دورين يتمثلان في التعامل مع مراقبة الحركة الجوية لطائرات الهليكوبتر، والطائرات في مطار ريجان قبل الحادث المميت.
ـ عادة ما يتولى شخص واحد كلا المهمتين بعد الساعة 9:30 مساءً، عندما تبدأ حركة المرور الجوي في الانخفاض. لكن المشرف جمع المهمتين معاً، قبل هذا الوقت وسمح لأحد مراقبي الحركة الجوية بالمغادرة.
ـ قبل أن تتمكن طائرة هليكوبتر من دخول أي مجال جوي تجاري مزدحم، يجب عليها الحصول على موافقة مراقب الحركة الجوية. وفي هذه الحالة، طلب الطيار الإذن باستخدام طريق محدد مسبقاً يسمح لطائرات الهليكوبتر بالتحليق على ارتفاع منخفض.
ـ لكن المصادر المطلعة قالت: إن المروحية لم تتبع المسار المقصود. وبدلاً من ذلك، كان ارتفاعها يزيد على 300 قدم، بينما كان يفترض أن تحلق على ارتفاع أقل من 200 قدم، وكانت على بعد نصف ميل على الأقل من المسار الصحيح عندما وقع الاصطدام.
ـ بينما كانت طائرة الركاب تقترب من المطار، طلب منها مراقب الحركة الجوية تغيير مسار الهبوط من مدرج إلى آخر، وهو ما وافق الطيار عليه، وربما يكون هذا الطلب قد زاد تعقيد الوضع قبل وقت قصير من الاصطدام؛ حيث يعد المدرج الثاني أقصر ويتطلب تركيزاً شديداً أثناء الهبوط، وهو ما أثار تساؤلات حول التغيير إليه في اللحظة الأخيرة.
ـ النقص الحاد في مراقبي الحركة الجوية بالولايات المتحدة أجبر الكثيرين على العمل لمدة ستة أيام في الأسبوع وعشر ساعات في اليوم، وهو جدول مرهق للغاية لدرجة أن العديد من الوكالات الفيدرالية حذرت من أنه قد يعيق قدرات المراقبين على القيام بعملهم بشكل صحيح.
ـ نظام تنبيه الاصطدام ـ
ـ التحطم المأساوي لفت الانتباه إلى تقنية تعرف باسم نظام تنبيه حركة المرور وتجنب الاصطدام، أو TCAS، والتي تم تطويرها لمنع الطائرات من الاصطدام في الجو بعد عدة حوادث مأساوية.
ـ أصبح النظام الذي أسسته إدارة الطيران الفيدرالية، إلزامياً للطائرات الكبيرة في الولايات المتحدة في عام 1993، وهو الآن شائع في جميع أنواع الطائرات التجارية على مستوى العالم.
ـ لكن معظم المروحيات العسكرية، مثل طائرة بلاك هوك التي تسببت في الاصطدام، ليست مجهزة بنظام TCAS ولكن لديها أجهزة إرسال واستقبال يمكنها التفاعل مع الطائرات.
ـ يعد الإقلاع والهبوط من الأوقات المهمة للطيارين، وقد تم تصميم نظام TCAS لتجنب إرسال التنبيهات على ارتفاعات منخفضة لتجنب تشتيت انتباه الطاقم.
ـ تم تصميم النظام للكشف المستمر عن الطائرات الأخرى ضمن نطاق يبلغ نحو 12 ميلاً، وهو ما يتجاوز بكثير حاجز الأمان المعتاد الذي يتراوح بين ثلاثة إلى خمسة أميال أفقياً و1000 قدم عمودياً.
ـ في حالة تقارب طائرتين، يعرض TCAS موقعهما لطاقم الرحلة ويرسل تنبيهاً عندما يتوقع النظام أنهما على وشك الاصطدام. وإذا استمرت الطائرات في مسارها نحو الاصطدام يقترح النظام «استشارة حل» بشأن المناورة عمودياً لتفادي الاصطدام.
ـ رغم أن نظام TCAS كان أداة قوية في منع وقوع الحوادث، فإنه مع ذلك ليس آمنا تماًماً من الفشل، وفي عام 2002، اصطدمت طائرة شحن وطائرة ركاب روسية، وكلاهما مزودتان بنظام TCAS فوق مدينة أوبرلينجن بألمانيا، ما أسفر عن مقتل جميع أفراد الطاقم والركاب البالغ عددهم 71 شخصاً.
ـ أشار التحقيق آنذاك إلى أن مراقب الحركة الجوية أمر الطائرة الروسية بالنزول، في حين أن TCAS وجه الطاقم للصعود، وهو ما تجاهله الطيارون الروس.
ـ تعمل إدارة الطيران الفيدرالية في الولايات المتحدة على تطوير نظام من الجيل التالي يسمى ACAS X الذي يستخدم التعلم الآلي وسيتم تصميمه لإرسال عدد أقل من التنبيهات غير الضرورية، في حين قامت الوكالة أيضاً بتمويل برنامج لطائرات الهليكوبتر، ACAS Xr، الذي من شأنه أن يوفر تنبيهات حتى 200 قدم، لمنح طياري طائرات الهليكوبتر وعياً أفضل بالموقف لتجنب الطائرات الأخرى.