لطالما كان الدين جزءاً لا يتجزأ من هوية العراق، فهو مهد الحضارات الأولى ومهد الديانات التي شكّلت الوعي البشري منذ آلاف السنين، فمن سومر وبابل إلى بغداد، لم يكن العراقيون مجرد متبعين للعقائد، بل صناع فكر ورواد في المزج بين الإيمان والثقافة.
ووفقاً للباحث والمؤرخ علي النشمي، فإن الدين يعد جزءاً أساسياً في حياة العراقيين منذ أن تكوّن ما يسمى بـ (العراق)، وأول دين ظهر كان عراقياً، فلم يكن ليعيش العراقيون على الأرض دون وجود واعز ديني.
الدين والحضارة في العراق
ويقول النشمي، إن "الحضارة العراقية، منذ الحضارات السومرية والبابلية و الأكدية والآشورية، حملت طابعاً دينياً، وكان للدين الدور الرئيس في بناء تلك الحضارات"، مضيفاً أن "الأمر ذاته تكرر عند قيام الحضارة العربية الإسلامية في بغداد، حيث أصبح الدين العنصر الأساسي في الفلسفة والطب والحياة وكل جوانب المجتمع".
ويرى النشمي، أن "التنوع الديني كان ولا يزال مسألة أساسية لإثراء الحضارة، إذ لا يمكن أن تزدهر أي حضارة دون تفاعل الأديان والثقافات المختلفة، والعراقيون امتازوا بهذا التعدد الديني الذي كان أساسياً في إبداعهم الحضاري".
ويشير النشمي، إلى أن "الحضارة العربية الإسلامية لم تكن قائمة على المسلمين فقط، بل كان لليهود والمسيحيين والصابئة دور بارز فيها، حيث ساهموا في ترجمة ونقل علوم الفلسفة والطب والهندسة"، مؤكداً أن "الحضارة الإسلامية هي مزيج من حضارات متعددة".
كما يضيف أن "الإنسان منذ وجوده قبل نحو 3 ملايين سنة، كان يبحث عن تفسير للحياة والكون من خلال الدين، الذي تطور مع الزمن ليشمل تقاليد ومعابد وكتباً دينية وشعائر".
الدين والصراعات التاريخية
وعن التحديات التي يواجه التنوع الديني، يوضح النشمي، أن "الاختلافات الدينية كانت دائماً جزءاً من التاريخ، وكثير من الحروب قامت تحت غطاء الدين، لكنها في جوهرها كانت مرتبطة بصراعات اقتصادية على الموارد والأرض".
وفقاً للنشمي، فإن الدين بريء من تلك الصراعات، فجميع الأديان السماوية وحتى بعض الديانات الوثنية تدعو إلى الأخلاق والتسامح، ولا يوجد دين يدعو إلى العنف أو الكذب أو الظلم.
الدين والهوية العراقية
من جهتها، ترى الناشطة الحقوقية سارة جاسم، أن "الدين ليس مجرد ممارسة روحية، بل هو جزء أساسي من هوية المجتمع العراقي، حيث يؤثر على القيم والعلاقات الاجتماعية وحتى القرارات السياسية".
وأضافت إن "التعايش بين الأديان في العراق هو إرث حضاري يجب الحفاظ عليه، لكنه يواجه تحديات كبيرة بسبب الاستقطاب الطائفي واستغلال الدين لأغراض سياسية ضيقة، ما يهدد النسيج الاجتماعي"، مبينة أن "ضمان حقوق جميع المكونات الدينية، وحماية حرية المعتقد، وتعزيز ثقافة الحوار، مسؤوليات جماعية تتطلب جهوداً من المجتمع المدني، والمؤسسات الدينية، وصناع القرار".
وتتابع جاسم حديثها بالقول إن "في ظل التحديات التي يواجهها التنوع الديني، من الضروري تبني سياسات تحترم التعددية، وتدعم بناء دولة المواطنة، بحيث يكون الانتماء الأساسي للوطن وليس للطائفة".
وتختم جاسم حديثها أن "تعزيز قيم التسامح والاحترام المتبادل هو السبيل لضمان مستقبل مستقر وسلمي بعيداً عن الصراعات الدينية والمذهبية".
الدين والمجتمع العراقي اليوم
أما الباحث الإسلامي الشيخ حيدر التميمي، فيوضح أن الدين في العراق ليس مجرد عقيدة، بل هو جزء من الحياة اليومية، إلا أنه يؤكد أن هناك فرقاً بين المسلمين والمتدينين.
ويقول التميمي، إن "الإسلام قدم مجموعة من التعاليم، لكن الناس انقسموا إلى مذاهب وفرق نتيجة الخلافات التي حدثت على مر العصور، ومع ذلك يبقى العنوان العام هو الإسلام".
ويضيف أن "المسلم الحقيقي وفق تعاليم الإسلام، هو من سلم الناس من يده ولسانه، فالممارسات العبادية كالصلاة والصيام تبقى بين العبد وربه، لكن الأهم هو سلوك الفرد في المجتمع".
ويتابع التميمي، قائلاً "إذا كان الإنسان يؤدي صلاته لكنه يرتكب الفساد أو يأخذ الرشوة أو يظلم الآخرين، فإن عبادته لا قيمة لها، لأن الدين في جوهره قائم على الأخلاق والمعاملة الحسنة".
التحديات السياسية للدين
في المقابل، تعتقد الناشطة أحلام سلمان خلال حديثها لوكالة شفق نيوز، أن "أبرز التحديات المتعلقة بالدين ليست مجتمعية بقدر ما هي سياسية، لأن الدين في حقيقته لا يفرض قيوداً، بل هو دين سماحة ومحبة وإنصاف".
وتوضح سلمان، أن "هناك خلطاً بين التعاليم الدينية والتقاليد الاجتماعية، فمثلاً لا يوجد فرض ديني صريح على ارتداء الحجاب، لكنه يعتبر تقليداً متوارثاً وله قدسية في بعض الأماكن".
وتضيف سلمان، "عند زيارة الكنيسة، هناك عرف يقضي بضرورة تغطية الرأس احتراماً لقدسية المكان، وكذلك عند دخول العتبات المقدسة في النجف وكربلاء، ينبغي احترام الرمزية الدينية، وهذا لا يعني إجبار الناس على معتقدات معينة، بل هو تعبير عن الاحترام المتبادل".
يبقى الدين جزءاً أصيلاً من الهوية العراقية، لكنه يواجه تحديات مرتبطة بالسياسة والاستقطاب الطائفي، في ظل مجتمع متعدد الأديان والطوائف. وبينما يحرص العراقيون على الحفاظ على إرثهم الديني والثقافي، فإن مستقبل التعايش يعتمد على تعزيز التسامح، وحماية الحقوق، وترسيخ مفهوم المواطنة بعيداً عن الانقسامات الدينية والمذهبية.