بعد أسابيع قليلة على ظهور الكوليرا -وباء نسيه اللبنانييون منذ عشرات السنين- في عدد من مناطق عكّار، جاءت الجولات الميدانية على المستشفى الحكومي في حلبا وعلى المراكز الصحية والمستشفى الميداني في ببنين، لتوضح بأن الأمور آخذة بالتراجع. وقد باتت في مربع حصر الوباء، تمهيدًا لإعلان النصر على العدو الجديد، في غضون الأيام المقبلة، إذا ما استمرت إجراءات السيطرة والحد من الانتشار تسير كما تسير الآن.
تراجع في الحالات
منذ البداية، كان الوباء محصورًا في بعض البؤر، وتركّز بشكل أساسي في ببنين والمحمرة. في السياق المستجد، فإن كل المؤشرات تشي بأن الكوليرا لن تصل بأفعالها ومواصيلها إلى ما وصل إليه فيروس كورونا في عكار، ولن تدوم هذه البكتيريا في الإنتشار كما دام الفيروس لأكثر من سنتين ولا يزال، فارضًا قوانين وأعرافاً جديدة، ومقفلًا المناطق بعضها بوجه بعض، وواضعًا الحواجز بينها، ومغيّرًا لعادات الناس وتقاليدها.
مؤشرٌ أول في هذا المنحى، وهو أن الكوليرا مرضٌ قديم ولقاحه موجود وآمن وفعّال، وللوقاية الأثر الناجع في القضاء على البكتيريا. المؤشر الثاني هو ما يمكن مشاهدته من معطيات على أرض الواقع لاسيما في عكار؛ بؤرة الانتشار الأولى لهذا الوباء في البداية والبؤرة نفسها التي بدأ فيها بالانحسار، بعدما تم تطويقه بإجراءات فعّالة؛ من استعداد سريع للمستشفى الحكومي، إلى مستشفى ميداني، فوصول اللقاح وانطلاق حملة التطعيم السريع الأسبوع المقبل بشكل كامل ومن دون منصة.
لم يُخفِ الأمر وزير الصحة فراس الأبيض في جولته الأخيرة في عكار، حين أشار إلى ما شاهده من تراجع وانحسار للكوليرا في مستشفى حلبا الحكومي، وتراجع أيضًا في أعداد الحالات المثبتة منها والمشتبه بها. ففي المستشفى الحكومي في حلبا الذي وصفه الوزير بخط الدفاع الأول في مواجهة الكوليرا، تراجعت الحالات التي كانت تشغل الغرف المخصصة لمرضى الكوليرا من فوق العشرين حالة إلى 4 حالات، وفي المستشفى الميداني في ببنين تشير المعطيات هناك إلى تراجع في الحالات التي تستوجب دخول المستشفيات. وهناك انحسار في الأعداد التي تأتي إلى المستشفى، وكلها مؤشرات تؤكد أن الأمر قد وصل إلى مرحلة تطويق المرض، تمهيدًا للسيطرة عليه بالكامل.
وعلى مبدأ مصائب قومٍ عند قوم فوائد، فإن ظهور الكوليرا قد شكّل فوائد لدى بعض البلديات، التي بحجّة الوباء استطاعت جلب بعض المشاريع، منها آبار إرتوازية وصرف صحي؛ بالإضافة إلى تطوير بعض المراكز الصحية، وجاءت إشارة الأبيض أمام بلديات المنطقة لافتة عندما اعتبر أنه "ربّ ضارة نافعة. فلقد سألني رئيس الحكومة: ماذا تريد أن نفعل بعد؟ فقلت له: إدفعوا أموال البلديات لكي تتمكن من رفع النفايات من شوارعها ومناطقها".
مصائب المزارعين
لكن على مقلب المزارعين لا فوائد تذكر من ظهور الكوليرا، بالإشارة إلى تراجع في بيع الخضار والفواكه العكارية، حسب ما يؤكد المزارعون وتجّار المنطقة، أمام كساد غير مسبوق للمواسم المختلفة، حتى أن جزءًا واسعًا من أبناء عكار لم يعد يشتري خضار المنطقة وفاكهتها بعدما ذاع أنها تُروى من المياه الملوثة.
محاولات بعض المزارعين إقناع الناس بأن أراضيهم تُروى من الآبار الإرتوزاية الجوفية لم تغيّر في الأمر شيئًا، وهذه مشكلة جديدة قد نتجت عن الكوليرا وهي لا تقل أهمية عن أي مشكلة أخرى، وقد بات وزير الصحة في أجوائها بعدما رفع صرخة المزارعين في عكار رئيس بلدية تلبيرة عبد الحميد صقر، مطالبًا الوزير بإيجاد حل ينقذ مواسم المزارعين في عكار لاسيما في منطقة السهل، بعدما لم يعد هناك من يشتريها إزاء الصيت الذي جلبته الكوليرا إليها.
صحيحٌ أن قطار التلقيح ضد الكوليرا قد انطلق في عكّار، إلا أن قطارًا آخر قد توقّف بالمقابل هو قطار بيع الخضار والفواكه. فربطة البقدونس مثلًا التي وصل سعرها إلى العشرة آلاف ليرة في السابق، تُعرض اليوم بألف ليرة وبـ500 ليرة ولا من يشتري. بل هناك مزارعون تركوا البقدونس والجزر والفجل والخس وغيره من الخضار في أرضها، وقرروا عدم قطافها، سيما وأن التصريف في الداخل والخارج صار معدومًا. لقد تلوّثت سمعة الزراعة بالصيت "المكولر"؛ فهل سينقذ الأبيض (وحكومته) المزارعين من كوليرا الكساد والضرر كما يفعل مع المرضى؟
مايز عبيد - المدن