شهدت أزمة الدواء في تونس خلال الأشهر الأخيرة أوج تفاقمها وهو ما دفع عددا من الصيادلة ومخابر إنتاج الدواء إلى إعلان حالة الطوارئ جراء فقدان عدد كبير من الأدوية، خاصة تلك التي توصف للمرضى الذين يشكون من أمراض مزمنة ويحتاجون بشكل عاجل لأدوية تخفيف الآلام أو غيرها.
وخلال الأسبوع الجاري، وبعد استفحال ظاهرة فقدان المواد الأساسية من الفضاءات التجارية، جاء الدور على الأدوية وذلك عندما دقت الأوساط الطبية جرس الإنذار معلنة حلول أزمة فقدان عدد مهول من أنواع الأدوية من الصيدليات مما صار يشكل خطرا محدقا بحياة الكثيرين بحسب وصف أصحاب الصيدليات وموزعي الدواء.
سجلت تونس أزمة نقص حاد في توفير عدد من الأدوية في الصيدليات.
نسق فقدان الأدوية يتزايد من شهر إلى آخر.
خلال شهر يونيو، كان عدد الأدوية المفقودة من الصيدليات ومسالك التوزيع في حدود 320 نوعا.
ارتفع الرقم بشكل مهول خلال نوفمبر الحالي وفق مصادر من غرفة الصيادلة ليبلغ نحو 700 صنفا من الأدوية.
من بين أنواع الأدوية تلك التي تتوقف عليها حياة المصابين بأمراض خطيرة مثل السكري والسرطان وضيق التنفس وضغط الدم وغيرها، فيما تبدو أدوية أخرى لها مفعول المهدئات ضرورية لبعض الحالات لتفادي الأعراض النفسية وحالات النوبات العصبية.
أفادت مصادر من غرفة الصيادلة التونسية أن عدد الأدوية المفقودة حاليا يتراوح بين 500 و700 نوع من الأدوية في وقت تعرف فيه الصيدليات نقصا كبيرا في التزود خصوصا في أدوية حقن "الأنسولين" التي يتناولها مرضى السكري أو عقاقير وأقراص طبية توصف لمرضى الأعصاب.
وفي المقابل فإن بعض الأدوية الأخرى موجودة ولكنها تسجل اضطرابا في توزيعها أو ندرة في توفرها بالصيدليات وهو ما عمق أزمة الدواء وزاد في معاناة المرضى الذين لا يجد 90% منهم الأدوية التي توصف لهم في المستشفيات بحسب غرفة الصيادلة.
ويجد بعض المرضى أو ذويهم أنفسهم يوميا في رحلة مضنية للبحث دون جدوى عن الدواء، وهو ما أفرز سيلا من الاتهامات للصيدليات برفض توزيع الدواء رغم أن صندوق التأمين على المرض (صندوق التعويضات عن الأمراض) هو الذي يتكفل عادة بدفع القسط الأكبر من سعر الأدوية الخاصة بالأمراض المزمنة والتي تتطلب علاجا طويل المدى وذلك وفق مقاييس تحدد مسبقا.
وفي الوقت الذي وجه فيه عدد من المرضى اتهامات للصيادلة بالتسبب في أزمة فقدان بعض الأدوية جزئيا أو كليا، كشف الشاذلي الفندري، وهو صيدلي في العاصمة تونس أن الأسباب الحقيقية لأزمة الدواء تعود إلى تفاقم ديون الصناديق الاجتماعية (صناديق المعاش) والتي ألقت بظلالها على اختلال ميزانية الصندوق الوطني للمرض باعتبار أنه لم يعد قادرا على التكفل ببعض الأدوية مما انعكس على نسق التوزيع في الصيدلية المركزية التي تشكو بدورها أزمة خانقة جعلتها غير قادرة على الإيفاء بالتزاماتها تجاه المزودين الأجانب.
وفقا لما ذكره الفندري، في تصريحات لسكاي نيوز عربية فإن:
أزمة فقدان الدواء في تونس هيكلية بالأساس وشاملة.
ليس هناك أدوية بعينها مفقودة وأخرى موجودة باعتبار أن الأمر يكاد يشمل كل أنواع الأدوية لأن الإشكال يكمن في عدم قدرة المخابر الصيدلية على الإنتاج بسبب مرورها بصعوبات مالية، وفي هذه الحالة تتوقف المخابر عن إنتاج سائر أصناف الدواء.
مخابر الدواء اضطرت للانقطاع لفترات عدة عن الإنتاج نظرا لتفاقم صعوباتها المالية وارتفاع جحم المستحقات التي تطالب بها لدى الصيدلية المركزية.
حجم الديون
وبخصوص حجم الديون في ذمة الصيدلية المركزية لفائدة مخابر إنتاج وصنع الدواء في تونس، قال الفندري: "ديون الصيدلية المركزية ناهزت 700 ألف دينار، ولكن الإشكال يتعدى كون هذه المبالغ كبيرة وإنما في أن أصحاب المخابر لم يتلقوا إشارات طمأنة من الجانب الحكومي (الصيدلية المركزية) لتسوية تلك المبالغ أو إيجاد صيغة مثلى لتسديد الديون حتى تتمكن المخابر من استئناف العمل."
وتابع: "في ظل تفاقم الأزمة يبقى الحل هو تسوية ديون الصيدلية المركزية، بعض ممن يعانون أمراضا مزمنة وجدوا الحل في الأدوية الجنيسة ولو أنها تشكو نقصا فادحا بدورها، وهناك آخرون لجأوا إلى الأطباء لتغيير وصفة الدواء وتعويضه بآخر، لكن الخطر الأكبر يكمن في أن بعض الأمراض تحتاج إلى نوع واحد من الدواء وفي حال عدم تناول الجرعة تصبح حياة المريض مهددة في كل لحظة."
أزمة مستفحلة
بدوره، أكد مصطفى عروس، وهو صاحب صيدلية، أن قطاع الدواء يعيش حقا أزمة تستفحل بمرور الأسابيع والأشهر، وأن كل الأطراف المتداخلة في القطاع تتحمل جزءا من المسؤولية في استمرار معاناة المرضى وعائلاتهم من أجل العثور على أصناف محددة من الأدوية.
وفي تصريح لسكاي نيوز عربية، قال عروس، الذي يدير صيدلية في محافظة بنزرت، شمال شرقي تونس: "نشكو فعلا نقصا فادحا في الأدوية، الصيدليات لا تمتنع عن توزيع الأدوية، كثير من المرضى يأتون إلى هنا وهم في أمس الحاجة إلى الدواء لكن عدم تلبية حاجياتهم لا تتحمله الصيدليات الخاصة، الأزمة تكمن في اضطراب نسق التوزيع وتوقف جل المخابر عن صنع الدواء."
وفي العام الماضي، أقرت وزارة الصحة خطة للحد من نقص الأدوية وذلك بإحداث مخزون استراتيجي من الأدوية الحياتية والضرورية وذلك تزامنا مع تزايد الحاجة للدواء واستفحال أزمة "كوفيد 19" إلا أن مؤشرات فقدان الدواء ظلت مرتفعة خصوصا تلك التي توصف للأمراض المزمنة والخطيرة كالسكري وضغط الدم والسرطان وضيق التنفس وغيرها.
ديون متفاقمة وراء الأزمة
ولم تقتصر أزمة فقدان الدواء على الصيدليات الخاصة، بل كان وقعها أكبر في الصيدليات العمومية داخل المستشفيات، التي تمنح المرضى الدواء بشكل مجاني خصوصا ممن يتمتعون بالتغطية الاجتماعية أو محدودي الدخل.
وألقى عماد الخليفي، الكاتب العام للنقابة العامة للأطباء والصيادلة وأطباء الأسنان للصحة العمومية من جهته الضوء على النقص الفادح في الأدوية داخل المستشفيات العمومية مؤكدا أن الأزمة ليست وليدة الأمس وإنما هي قديمة وظلت تستفحل بمرور السنوات بسبب عدم إيلائها العناية اللازمة والبحث جديا عن حلول عملية للحد منها."
وفي تصريح خص به سكاي نيوز عربية، قال الخليفي:
أزمة قطاع الدواء، التي تبدو متفاقمة بشكل حاد في قطاع الصحة العمومية وداخل المستشفيات تعود إلى ما يزيد على 7 سنوات.
لم تحقق الصيدليات العمومية الاكتفاء الذاتي من الأدوية إطلاقا، رغم مجهودات المخابر للحد من النقص الفادح وتوفير أصناف من الأدوية الموصوفة عادة للأمراض المزمنة والخطرة.
أعداد الأدوية المفقودة في تصاعد، وقد بلغت أوجها في العامين الأخيرين، قد يكون لتفشي وباء كورونا في تونس منذ 2020 دور في ذلك باعتبار أن المخابر والصيدليات كرست كل جهودها للعمل على الحد من تداعيات جائحة كورونا، ولكن في كل الأحوال القطاع يحتاج اليوم إلى دراسة شاملة للحد من النقص الفادح واستعادة التوازن ولو بشكل جزئي.
تجمد أسعار بعض الأدوية منذ سنوات مقابل تزايد تكلفتها أثقل كاهل بعض المخابر التي لم تعد تصنع عددا معينا من الأدوية لتلافي مزيد من الخسائر بحسب قوله.
جدير بالذكر أن وزارة الصحة في تونس، أقرت في وقت سابق بالأزمة المالية الخانقة التي تعيشها بعض مخابر الأدوية والصيدلية المركزية، وشددت على ضرورة الانطلاق الفوري في الإصلاحات العاجلة لقطاع الأدوية على غرار ترخيص الترويج بالسوق الخارجية وإحداث الوكالة الوطنية للأدوية والعمل على تسوية وضعية ديون الصيدلية المركزية للبلاد التونسية.
ليليا رمضان - سكاي نيوز عربية