في الوقت الذي تبدو فيه قضية ترسيم الحدود البرية بين لبنان وإسرائيل ملفا قانونيا وتقنيا، فإنها في الواقع تحمل أبعادا سياسية وأمنية معقدة.
إسرائيل تتحدث عن "ترسيم"، بينما يصر لبنان على "تثبيت" الحدود، وفقا لما أقرته اتفاقية الهدنة عام 1949. هذا التباين في المصطلحات ليس مجرد فرق لغوي، بل يعكس اختلافا جذريا في الرؤية، حيث تسعى إسرائيل إلى إعادة التفاوض من الصفر، بينما يعتبر لبنان أن حدوده موثقة ومعترف بها دوليا.
في هذا الصدد، يؤكد الكاتب والباحث السياسي داوود رمال أن "الإسرائيلي يتقن فن شراء الوقت"، مشيرا إلى أن تل أبيب تحاول إدخال نقاط جديدة في المفاوضات عبر دمج 5 مناطق احتلتها خلال الحرب الأخيرة، مع النقاط الـ13 المتنازع عليها، مما يعيد التفاوض إلى نقطة الصفر ويجعل العملية أكثر تعقيدا وطولا. رفض لبنان لهذا الطرح يعكس إدراكه للمناورة الإسرائيلية التي تهدف إلى إضفاء شرعية على احتلالها لمناطق جديدة.
واشنطن تمسك بالخيوط.. وسيط أم شريك؟
الولايات المتحدة تلعب دور الوسيط في هذا النزاع، لكنها ليست طرفا محايدا. فمنذ وقف إطلاق النار الأخير، حصلت إسرائيل على إذن أميركي بالبقاء في بعض المواقع داخل لبنان حتى 18 فبراير، ما يعكس دعما ضمنيا لاستراتيجيتها التفاوضية.
تصريحات نائبة المبعوث الأميركي إلى الشرق الأوسط، مورغان أرتاغوس، حول استمرار العمل الدبلوماسي لحل النزاع الحدودي، تكشف عن نية أميركية لإبقاء الملف مفتوحا بما يخدم مصالحها في المنطقة.
رمال يشير إلى أن الإعلان عن الاتفاق لم يكن ليحدث لولا أن "الجيش اللبناني وقوات اليونيفيل قطعوا شوطا كبيرا في تدمير القدرات التسليحية لحزب الله في منطقة جنوب الليطاني"، وهو الشرط الأساسي الذي كانت واشنطن وتل أبيب تنتظرانه قبل الانتقال إلى مرحلة جديدة من التفاوض. هذا يطرح تساؤلًا: هل الضغط الأميركي هدفه ترسيم الحدود فقط، أم أنه جزء من مخطط أوسع يتعلق بتغيير موازين القوى في الجنوب اللبناني؟
تصريحات رمال تؤكد أن هناك تحركا دوليا لجعل جنوب الليطاني منطقة خالية من سلاح المقاومة، باستثناء الجيش اللبناني وقوات اليونيفيل. وهو يقول بوضوح: "لن يبقى أي سلاح في منطقة جنوب الليطاني، وهذه المسألة محسومة ويعرفها الأميركي والفرنسي والإسرائيلي".
إذا كان هذا هو الواقع الذي يتم فرضه ميدانيا، فإن المرحلة المقبلة قد تشهد تصعيدا في الضغوط لمعالجة ملف سلاح حزب الله شمال الليطاني أيضا.
رمال يلمح إلى أن هناك تحضيرا دوليا لمؤتمر حوار وطني برئاسة رئيس الجمهورية اللبنانية، يكون هدفه الأساسي بحث استراتيجية الأمن والدفاع، وهي إشارة واضحة إلى أن النقاش حول سلاح حزب الله قد يصبح أكثر جدية في المستقبل القريب.
إسرائيل في سباق مع الزمن.. ما الذي تخشاه؟
رمال يكشف عن نقطة في غاية الأهمية، وهي أن "الوقت المستقطع أمام إسرائيل لإنجاز ما تقوم به في لبنان بدأ ينفد"، مشيرا إلى أن الأميركيين أبلغوا تل أبيب بأن الأولوية هي "الأمن والاستقرار المستدام في جنوب الليطاني"، لأن هناك مشاريع استراتيجية جديدة تتعلق بالنفط والغاز في البحر اللبناني.
هذا يعني أن إسرائيل قد تجد نفسها مضطرة إلى القبول بحل سياسي، ليس بسبب ضغوط لبنانية فقط، بل لأن واشنطن نفسها تريد إنهاء التوتر في المنطقة لتأمين مصالحها الاقتصادية، وتحديدا في ملف الطاقة. إذا صحت هذه القراءة، فإن إسرائيل قد تحاول استغلال الفترة المتبقية لتحقيق أكبر قدر من المكاسب قبل أن تضطر إلى تقديم تنازلات.
المشهد الحالي يشير إلى أن لبنان أمام تحد دبلوماسي كبير، إذ يجب عليه تفادي الفخاخ الإسرائيلية في المفاوضات، وفي الوقت نفسه استثمار الضغوط الأميركية على تل أبيب لتحقيق مكاسب حقيقية في ملف الحدود.
الخيار المتاح أمام لبنان هو تثبيت النقاط التي تم الاتفاق عليها سابقا وعدم السماح بإعادة خلط الأوراق، خاصة أن رمال يؤكد أنه "تم التوصل إلى اتفاق على 7 نقاط من أصل 13"، مما يعني أن الحلول الجزئية ممكنة، شرط ألا يسمح لبنان لإسرائيل بإعادة توسيع نطاق المفاوضات.