سوريا.. في أثقال الأوهام ومتاعب الأحلام

تظل سوريا منبع الإثارة في المنطقة، ويبقى سجلها حاملاً أوهام الشعب، الذي لم يعط الدعم لأي من الانظمة التي عاشتها سوريا منذ الاستقلال، الذي تحقق في عام 1945 بكفاح بطولي ضد ما تبقى من قوة للجمهورية الفرنسية التي دمرتها القوة الألمانية.

جاءت سوريا المستقلة من الاستعمار الفرنسي بنظام مختلف حجماً وتوجهاً وفكراً عمّا كان يطالب به زعماء النخبة العروبية، الداعمين لاستقلال الشام بدولة واحدة وبكل الأجزاء اللبنانية والأردنية، من الذين تعايشوا مع الحكم العثماني، وتسلحوا بالعروبة وأهدافها في إقامة الدولة العربية الكبيرة، وكانت مساهمة هؤلاء العروبيين تأكيداً لحلم الدولة العربية، التي يشكل إقليم الشام قاعدتها ومنطلقها، ولم يتجاهل شعب سوريا، الذي هزم الاستعمار الفرنسي، هذا الحلم الذي تسلّل الى دماء الجماهير السورية، وتمكن من الاستيطان محرّكاً آمال الوحدة، وموفراً لهذه الآمال ديمومة البقاء. كنا كعائلة نذهب الى سوريا في الخمسينيات، نتسامر مع الاصدقاء السوريين من الجيران حول الأوضاع العربية، فكانت خطوط الاهتمام في الأولويات متباعدة جداً. كانت أحلام السوريين هي الوحدة مع الجيران، لبنان، والاردن، أو العراق، كمنطلق لتحقيق الوحدة العربية الشاملة، لم تكن سوريا، في نظرهم، الدولة التي يريدونها، لأنها جزء صغير من الشام التي تجزأت بعد استقلال لبنان، وبروز مملكة الأردن.

لم أشعر بالحرص الوطني السوري القوي على الحفاظ على سوريا بحدودها، التي رسّخها ورسمها الاستعمار الفرنسي، ولم ألمس تصاعد الغيرة لحماية الكيان السوري، وإنما كانت التمنيات بروز قوة عروبية في لبنان والأردن للانضمام إلى سوريا، مع تصورات بأن الجيش السوري قادر على قهر القوى الإسرائيلية وضم فلسطين، لكي تكتمل الدولة السورية الممتدة على كل الساحة الشامية. كانت أجواء سوريا السياسية في الخمسينيات تفتح الأمل وتغري لاحتمال تحقيق هذه الأحلام، فقد كان المناخ السياسي متشبعاً بالحدة العروبية، تخرج من أهداف تبرزها الأحزاب الصاخبة في الحياة السياسية السورية، مع صرعات أيديولوجية يسارية ويمينية. كانت الأصابع المصرية تلعب بقوة على مسرح دمشق، ويلاحقها الدور الناشط للنظام العراقي الهاشمي. كانت المنافسات لكسب المتعاطفين بين مختلف القوى تلعب بقوة ومن دون خجل، لتحقيق أكبر اتساع في قوة التأثير داخل مجرى سوريا السياسي. كانت تركيا تلاحق ما يدور، ولم تكن بريئة في نواياها، وكان الاتحاد السوفيتي يشجّع اليسار، وأوروبا والغرب يدعمون مساعي العراق لنيل أكبر نفوذ، بينما يتفوّق الدور المصري في تدخلاته السياسية وفي توجهاته الإعلامية. لم تكن الهوية السورية، التي رسمت خريطتها قوى الاستعمار الفرنسي، قادرة على تطويق النفوذ الناصري، ولم ينجح الدور العراقي في التضييق على المداخلات المصرية، فكانت الكفة ترجّح بروز الناصرية مدعومة بتجمعات الأحزاب العروبية من قوميين وبعثيين ومناصرين منتفعين، وأصبح الفضاء السياسي السوري مرحباً بالدعوة الوحدوية مع مصر الناصرية، التي طغت مع الدور المناصر الذي لعبته الأحزاب القومية السورية، لم يتوفر لسوريا التي رسمت حدودها القوى الفرنسية مناصرون من أبناء الشعب السوري للحفاظ على هويتها، ولم يكن لهم تأثير إن وجدوا، لأن الصوت القوي والطاغي هو الداعي لوحدة سورية - مصرية، ترسم خريطة مختلفة في العالم العربي، وتشجّع الآخرين على اللحاق بالركب الجديد في سماء الأمة العربية، لم تأت الوحدة السورية - المصرية من حسابات عملية عقلانية، لأن الحماس السوري الطاغي لم يترك لهذا التوجّه أي مجال، مع تعالي الصوت المتناغم مع الشارع العربي، لا سيما في حوض الشام، لم يترك الحماس السوري فرصة للعقلانية والتفحص والتحليل، وإنما تحوّل هذا الحماس الى قوة تتدفق بحجم لم يستطع السياسيون تطويقها أو الحد من سلطتها، فالشعب السوري تعايش مع مفاهيم الوحدة منذ صغره، واستوعب معانيها مع تطورات وتبدلات مست الحياة السياسية، التي مرت بها سوريا في الخمسينيات.

كما لاحظت خلال زياراتي لسوريا في الخمسينيات غياب الاهتمام بالحقائق، التي برزت في المنطقة، وعلى الأخص في إقليم الشام، حيث أصبح لبنان مستقلاً برعاية أوروبية، وهناك إسرائيل على أرض فلسطين تفوقت في أحداث 1948، وصارت دولة عضواً في الأمم المتحدة، والاردن مملكة عربية مستقلة، لها هوية ونظام سياسي ورأي عام وجيش محترف، بينما التصوّر العام في دمشق، من خلال طروحات السوريين، أن فرقة من الجيش سوري قادرة على إنهاء اسرائيل. والحقيقة أن طغيان الحماس وتأثير الاعلام المحلي وسطوة التمنيات، أبعدت القدرة على استيعاب أشواك الحقيقة المرة، خاصة أن الأحزاب العروبية مارست المبالغات في ضعف العدو وتعظيم القوة العربية، كما اتبعت نهج إبعاد القوى المعتدلة والمحافظة، والتضييق عليها في الساحة السورية، عبر التجنيد الحزبي والتسلّل للجيش السوري، والترحيب بدوره في مسار الصرعات السياسية الداخلية، ولم يتوقف إغراء الجيش للساحة السياسية فقط، فقد وجدت القوى السياسية فيه حامياً يصون التجمعات ويستذوق المنافسات، ومن ذلك دخلت الحياة السياسية في سوريا واقعاً صار الجيش فيه قائداً وموجهاً سياسياً، ولم تعترض الأحزاب التي تمادت في مغازلة الجيش، الى درجة أصبحت التجمعات آليات يوجهها الجيش حيثما يريد. ومن هذا الواقع تحصّن حزب البعث بمساندة فريق من الجيش، ضمن له البقاء في الحكم لمدة تزيد على خمسين سنة، احتكر فيها السلطة وهندس الدبلوماسية السورية، لضمان البقاء في إطار طائفي، متسيّداً النفوذ في سوريا، ومتجاهلاً صوت الأغلبية، وهاضماً حقوقها المشروعة، وراسماً لمستقبل يؤمن الحكم للأقلية الطائفية، ولذلك تحرّك الشعب السوري بعد أن هزّه القهر والتجاهل، وملتفاً لدعم القوى التي تصدت لحكم الأسد، ونجحت في وضع نهاية للحكم الطائفي المتنكر لحقوق الأغلبية، والخانق لصوتها.

لا أحد يستطيع أن يتكهن بنوع المسار المستقبلي لسوريا، ولا أحد يملك اليقين حول مستقبلها، لكن الوضع الحالي يفتح أبواب الاجتهادات التي تنبع من حقائق سوريا، وأبرز مواصفاتها تواجد الجيش في السياسة منذ تاريخ الانفصال في سبتمبر 1961، وتمتع القوات المسلحة بالسيطرة على الحياة السياسية، جاءت التغيرات الأخيرة من مبالغات النظام السابق في طائفيته واحتكاره للسلطة، وحصر الامتيازات للطائفة العلوية التي حكمت سوريا لمدة نصف قرن، وهي حالة غير مسبوقة في تاريخ التبدلات السورية، لا في عنصريتها أو عزلتها، ولا في تطاولها على الأغلبية السنية التاريخية، وتجاهل إنسانيتها وحقوقها، لكن الأمل الآن يبقى قوياً في قدرة قيادة اليوم على استخلاص العبر من العهد الطائفي، الذي تحكّم بسوريا لأكثر من نصف قرن.

القبس

يقرأون الآن