تدفق عشاق الموسيقى والثقافة إلى رحاب المكتبة الوطنية العريقة في بيروت، ليشهدوا حدثًا ثقافيًا فنيًا استثنائيًا يمزج بين عمق المعرفة وسمو الأداء:"أمسية غيتار".
في رحلة موسيقية عبر الزمن. وذلك في إطار حفل يدمج بين المحاضرة والعزف، ويجمع بين الفن والثقافة الأكاديمية، بدعوة من رئيسة المعهد الوطني العالي للموسيقى- الكونسرفتوار المؤلفة الموسيقية هبة القواس، في إطار سعيها المستمر لتعزيز المشهد الثقافي والموسيقي في لبنان الذي يعكس غنى تراث لبنان الثقافي، مما يساهم في دعم الدبلوماسية الثقافية وتوثيق الروابط بين الشعوب عبر لغة الموسيقى العالمية، وتشكيل منصة لتبادل الفكر الثقافي بين الموسيقيين اللبنانيين والدوليين، مساهمة في تعزيز دور لبنان كمركز ثقافي في المنطقة.
لم تكن هذه الأمسية مجرد حفلة موسيقية، بل كانت دعوة لتجربة ثقافية غامرة، جسّدت بامتياز التعاون الثقافي الرفيع بين المعهد الوطني العالي للموسيقى، وسفارة إسبانيا في لبنان، ووزارة الثقافة اللبنانية، تحت رعاية وزير الثقافة الدكتور غسان سلامة، وبحضور شخصيات ثقافية ودبلوماسية بارزة على رأسها سفير إسبانيا في لبنان خيسوس إغناثيو سانتوس أغوادو.
افتتح الأمسية معالي وزير الثقافة الدكتور غسان سلامة بكلمة مقتضبة ومعبرة رحب فيها بالحضور، وقال: "ستستمعون الليلة الى أهم عازف غيتار شرفنا بحضوره، وستخططون بعد الاستماع إليه إلى كيفية إعادته مجدداً إلى لبنان. تعاوننا مع السفارة الإسبانية هو تعاون نموذجي في عدة مجالات وتعاون غني إلى أقصى الحدود. وأنا سعيد جداً الليلة بتقديم مثال حي على هذا التعاون، من خلال دعوتنا لعازف الغيتار الشهير خوسيه ماريا غاياردو ديل راي ليقدم هذا العمل المبتكر في المكتبة الوطنية".
ثم كانت كلمة لرئيسة الكونسرفتوار هبة القواس، ومما جاء فيها: " كلما التقينا مع سعادة سفير إسبانيا تولد فكرة، عاقلة أحياناً ومجنونة أحياناً أخرى. العلاقة بين الكونسرفتوار ووزارة الثقافة والسفارة الإسبانية مختلفة وتحمل مشاريع مقبلة نعدكم بها قريباً. خوسيه ماريا غاياردو ديل راي ليس فقط أحد أشهر وأمهر عازفي الغيتار والمؤلفين في إسبانيا والعالم، إنما يحمل عمقاً موسيقياً وبعداً صوتياً يحملان الروح الإسبانية الأصيلة. من النادر أن نرى من يجمع بين الغيتار الكلاسيكي والفلامنكو. هو درس غيتار كلاسيكي ولكن ما يضيف إلى شخصيته الموسيقية أنه ولد في أشبيليا المدينة التي أنجبت هذا النمط من الموسيقى، وهذا ما جعل في أدائه وعزفه هذا الرنين ( (Resonanceالذي لا نسمعه عند أي عازف كلاسيكي آخر.
وأضافت: "في حفل متحف سرسق، لعب ديل راي تحفة "كونشيرتو آرانخويز" (Concierto de Aranjuez) للمؤلف خواكين رودريغو (1901-1999)، وكانت نعمة أن نستمع إلى من قدم هذا الكونشيرتو في حضرة رودريغو قبل أن يرحل، وعمل معه على كيفية تنفيذ هذا الكونشيرتو. كما أنه أيضاً تلميذ عازف الغيتار الأول الذي نفذ "كونشيرتو آرانخويز" لأول مرة في التاريخ عام 1940 في world premiere ، وهذا يعطي كمالاً للصوت. أشكر الصديق العزيز خوسيه ماريا الذي ترافقنا سوياً منذ 25 سنة على مسارح العالم في أعمال أوبرالية وأوركسترات، وكان كريماً جداً بترجمة هذه الصداقة، وذلك عندما طلبت منه في خلال أزمة لبنان أن يكون سفيراً للكونسرفتوار، وأن يحمل صوت لبنان وما يمر به البلد والكونسرفتوار في تلك المرحلة، فقبل من دون تردد. كما طلبنا منه أن يتسلم قسم الغيتار لنكون مواكبين لأعلى مستوى في العالم. وهو لم يكتف بالقبول فقط إنما عمل على تأمين الدعم المادي من خلال تواصله مع منظمتين في إسبانيا وكان لي لاحقاً لقاء معهما ووقعنا اتفاقيات، وما زال هذا العمل والتواصل منذ العام 2022 حتى اليوم بشكل دوري، وهو يأتي إلى لبنان ويعطي ماستر كلاسز وورش وحفلات وكونشيرتوهات حاملاً صوتنا وصوت لبنان الى العالم.
وتابعت القواس: "واليوم نحن في حضرة المكتبة الوطنية هذا الصرح العريق الذي عانى من الحرب كما يحمل ذاكرة الكتب والثقافة، وذاكرة النهضة الجديدة. واليوم يُحتضَن هذا الصرح من مفكر كبير هو الوزير غسان سلامة الذي نأمل أن يشرفنا ويكون في الكونسرفتوار كأحد المحاضرين في الفكر والسياسة. سنستمع الليلة إلى محاضرة وحفل موسيقي مع خوسيه ماريا، يشرح ويترجم عزفاً ما يقوله عن الموسيقى، وهذه فرصة نادرة."
وكانت بعدها كلمة للسفير الإسباني شكر فيها رئيسة المعهد وأشاد بالتعاون بين السفارة والكونسرفتوار، شاكراً أيضاً وزير الثقافة على رعايته الكريمة، ورحب بالعازف الإسباني الشهير.
تضمنت الأمسية مزيجًا فريدًا من العلم والفن، في سياقٍ مبتكر وتوليفة من محاضرة وأداءٍ موسيقي على الغيتار كان نجمه خوسيه ماريا غاياردو ديل ري بعبقريته وتفرده، عازف الغيتار العالمي الذي أثبت مرة أخرى لماذا يُعد من أبرز الشخصيات في تاريخ الغيتار الإسباني المعاصر. لم يأت ديل ري ليعزف فحسب، بل ليُعلّم ويُلهم. فبنهجه الفريد الذي يجمع ببراعة بين الروح الجياشة للفلامنكو والأندلس، وهو ابن اشبيليا، والأصالة العميقة للموسيقى الكلاسيكية، استطاع أن يفك شفرات "روح الغيتار الإسباني" أمام الجمهور. هو ليس مجرد مؤدٍ، بل هو راوٍ موسيقي، يستحضر من أوتار آلته حكايات قرون من الفن والتاريخ، مانحًا الحضور بصيرة نادرة في عالم هذا الفن العريق. كانت كل نوتة يطلقها ديل ري شهادة على سنوات من الإتقان، وكل تعبير وجهه كان مرآة لشغف لا ينضب، مما أكسبه اعترافًا عالميًا كفنان يمتلك القدرة على تجاوز الحدود الفنية التقليدية.
برنامج الأمسية كان بمثابة رحلة تاريخية وموسيقية عبر عوالم الغيتار الإسباني المتنوعة. لم يكتفِ ديل ري بتقديم الأداء المذهل، بل أضاف قيمة فريدة من خلال محاضرته المقتضبة قبل كل مقطوعة، شارحًا سياقها التاريخي وأهميتها الفنية، مما عمّق فهم الجمهور وتقديرهم لما يسمعونه. بدأت الرحلة مع "ديفرينسياس" للويس دي نارباييز (1526-1549)، عمل يحمل عبق عصر النهضة الإسباني، مرورًا بـ"رقصات الباروك الإسبانية" لغاسبار سانز (1640-1710)، التي نقلت الحضور إلى عصر الأناقة والرقي بألحانها الإيقاعية. ثم جاء "كابريتشو عربي" لفرانسيسكو تارّيغا (1852-1909)، جوهرة فنية تجسد المزج بين النغمات الإسبانية والشرقية، تلتها رائعة "توري بيرميخا وأستورياس" لإسحاق ألبينيز (1860-1909)، التي رسمت لوحات صوتية ساحرة من عمق المشهد الرومانسي الإسباني. واختتمت الأمسية بمقطوعة "لوركا" التي ألفها ديل ري نفسه، ومهداة إلى الشاعر الإسباني فيديريكو غارسيا لوركا، الذي ألهم أجيالاً من الشعراء والفنانين. مقدماً لمسة معاصرة وإبداعية تعكس استمرارية هذا التراث وتطوره. كل مقطوعة كانت قصة تروى على أوتار الغيتار، معزوفة بحس فني رفيع ومهارة تقنية لا مثيل لها.
أضاف اختيار المكتبة الوطنية في بيروت بعدًا رمزيًا وعمقًا للحدث. هذه المكتبة، التي تُعد صرحًا ثقافيًا عريقًا وحافظًا لذاكرة لبنان، وفرت بيئة مثالية لاحتضان هذا اللقاء الفني-المعرفي. جدرانها التي تتنفس تاريخًا ومعرفة، احتضنت الأصوات الدافئة للغيتار الإسباني، لتخلق تناغمًا فريدًا بين أصداء الموسيقى الخالدة وعبق الكتب والمعرفة. لقد تحولت المكتبة من مجرد فضاء للقراءة إلى مسرح حي يجمع بين الفن والعلم، مؤكدة على دورها كمركز إشعاع ثقافي حيوي.
تجاوزت هذه الأمسية كونها مجرد حفل موسيقي، لتصبح تجربة ثقافية متكاملة، تجمع بين التعلم والاستمتاع، بين الفن البصري والسمعي، وبين الماضي والحاضر. وتركت بصمة عميقة في نفوس الحضور، مؤكدة على قوة الموسيقى كلغة عالمية قادرة على تجاوز الحواجز، وعلى أهمية تبادل الثقافات في بناء جسور التفاهم والتقدير المتبادل. بيروت، وكعادتها، أثبتت أنها مدينة تحتضن الفن والثقافة بكافة أشكالها، وأنها لا تزال منارة ثقافية ترحب بالإبداع من كل حدب وصوب.