ما بين لبنان وسوريا سباق، خلافات، وضرب تحت الحزام. لكن غالبية الضربات تبدو مكتومة حتى الآن. في موازاة التسريبات التي نُشرت في الأسبوع الفائت، عن استعداد لدى السلطة السورية الجديدة لاتخاذ إجراءات تصعيدية ضد لبنان، على خلفية الجمود في ملف الموقوفين السوريين في السجون اللبنانية وعدم إطلاق سراحهم، كانت السلطات اللبنانية في المقابل تعلن عن توقيف عشرات السوريين المقيمين بطريقة غير شرعية. بعدها جاءت تصريحات الموفد الأميركي توم باراك بشأن عودة لبنان لبلاد الشام، ما أدى إلى رفع منسوب التوتر بين البلدين. تأخرت سوريا في إرسال وفد رسمي من قبلها للبحث مع المسؤولين اللبنانيين في معالجة الملفات العالقة. وهذه تحمل إشارة سلبية بالنسبة إلى لبنان، الذي يريد لدمشق أن تتعاطى مع بيروت على قاعدة ندية، وهذا ما يترك مجالاً أمام الاستثمار بالمزيد من الخلافات وفق ما ورد في "المدن".
سنوات إلى الوراء
من المؤشرات السلبية على العلاقة بين الجانبين أيضاً، هو الموجة الواسعة من الأجواء التي جرى تعميمها حول عودة نشاط "التنظيمات الإرهابية" على الساحة الداخلية، واتهام الإدارة السورية الجديدة بالوقوف وراءها. على مدى الأيام القليلة الماضية، ضج لبنان بأخبار متعددة حول تسرّب مقاتلين سوريين إلى الداخل اللبناني، عملوا على تشكيل خلايا مرتبطة بتنظيم داعش أو غيره من التنظيمات المتطرفة، بهدف تنفيذ عمليات في مناطق متفرقة. آخر إحدى التسريبات كانت بشأن المجموعة التي جرى توقيفها في منطقة المتن الأعلى، والتي سارع الجيش اللبناني إلى نفي أي تحضير من قبل تلك المجموعة لتنفيذ عمليات إرهابية أو لديها صلات بتنظيم داعش.
تحاكي هذه التطورات، عودة سنوات إلى الوراء، وبالتحديد إلى فترة نشطت فيها تنظيمات متطرفة على الساحة اللبنانية، فنفذت تفجيرات وعمليات استهدفت مناطق مختلفة وأدت إلى سقوط ضحايا. إعادة استنباط تلك المرحلة، يترافق مع زيادة الردود على كلام باراك حول إعادة لبنان إلى بلاد الشام. وهو أكثر ما يمكن أن يستفز اللبنانيين، الذين سيشعرون بفعل هذه الأجواء أنهم مهددون بالمعنى السياسي والسيادي، بالإضافة إلى التهديد الأمني، الذي يتربص بهم، في حال فعلاً كان هناك عمليات تسلل لمقاتلين متطرفين من سوريا إلى لبنان.
هواجس مصطنعة؟
الأكيد أن مقاربة الأمور بمثل هذه الطريقة والآلية، تشكل عناصر استفزاز للإدارة السورية الجديدة، التي تعتبر أن لبنان يريد أن يتهرب من المسؤوليات المفروضة عليه، وخصوصاً في ملف سلاح حزب الله، فيعمل على اللجوء إلى "اختراع" هواجس مصطنعة عن عمليات إرهابية محتملة، على حد تعبير أحد المسؤولين السوريين، الذي يعتبر أن حزب الله يريد الاحتفاظ بسلاحه، وتبرير هذا الاحتفاظ من خلال ادعاء الحاجة إلى التمسك بالسلاح للدفاع عن المناطق الحدودية، كما كان الوضع عليه في السنوات السابقة. ويضيف المسؤول السوري قائلاً: "لا يزال اللبنانيون يقرأون في كتاب قديم، ولم ينتبهوا إلى حقيقة ما يجري ويتعاطون مع الرئيس السوري بوصفه رجلاً مطلوباً أمنياً على مستوى دولي، وليس كرئيس سوريا الذي يحظى بدعم دولي كبير". ويشير المسؤول السوري إلى أنه يجدر باللبنانيين العمل على تغيير نظرتهم للتطورات والوقائع.
ويكشف المسؤول السوري، أن دمشق لا أطماع لها في لبنان، ومنذ انطلاق عمليات ردع العدوان كان هناك مواقف واضحة، بأن كل هذه العمليات تتركز على إسقاط نظام بشار الأسد، ولن يكون هناك أي تهديد لدول الجوار. ولكن حسبما يعتبر، فإن أطرافاً لبنانية عديدة لا تزال تهاجم سوريا وإدارتها الجديدة. وهذا لا يساهم في بناء علاقات جيدة. ما تريده سوريا بحسب المسؤول، هو معالجة الملفات العالقة، وإطلاق سراح الموقوفين، ومنع تشكيل الأراضي اللبنانية لأي تهديد للأراضي السورية. وهنا يغمز السوريون من قناة حزب الله. علماً أن الحزب ينفي بشكل كامل وقاطع أي نشاط له في سوريا، وأنه لم يعد لديه أي وجود على الأراضي السورية، ولا نية له بالتدخل أبداً في الشأن السوري
ملف الموقوفين
لبنان في المقابل، يؤكد على لسان مسؤول رفيع أنه منذ الأيام الأولى لسقوط نظام بشار الأسد، بدا اللبنانيون مستعدون للتعاون، وقد زارت وفود عديدة سوريا لتقديم التهنئة للشرع، والاستعداد للدخول في مسار تصحيح العلاقات التاريخية. ما يريده لبنان، بحسب المسؤول، هو أن يزور وفد سوري رسمي بيروت، كإشارة إلى الاعتراف الرسمي بالسيادة اللبنانية، وعدم الاكتفاء بالزيارات اللبنانية إلى دمشق. في هذا السياق، تكشف مصادر متابعة إلى أن دمشق بصدد تشكيل لجنة من وزارات العدل والداخلية والخارجية والدفاع لزيارة لبنان، والبحث في العمل على معالجة ملف الموقوفين، مع التأكيد أن لبنان مستعد للتعاون والوصول إلى حلّ. علماً أن ما تطرحه دمشق هو نقل الموقوفين لمحاكمتهم في سوريا.
في هذا السياق، تشير مصادر متابعة إلى أن دمشق لم تكن تريد لملف الموقوفين أن يأخذ كل هذا الوقت والجدل لحسمه، بل هي تعتبر أنه كان يفترض إطلاق سراحهم بمجرد سقوط نظام الأسد. حتى بما يخص زيارة وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني إلى بيروت فالمُراد لها أن تكون تتويجاً لإنجاز ملف الموقوفين لا للتفاوض بشأنه.
من هنا تتعاطى سوريا مع لبنان من موقع المتفوق، خصوصاً في ظل تدفق الوفود الأجنبية والاستثمارات إليها، بالإضافة إلى الإشادات الدولية بمسارها. تعتبر سوريا أن هناك اهتماماً دولياً بها وبأمنها أيضاً، انطلاقاً من تقدم مسار العلاقة مع الولايات المتحدة الأميركية. وهو ما يوجب زيادة الضغط على لبنان لضبط الحدود ومنع تهريب الأسلحة إليه أو منه، وصولاً إلى "تفكيك البنية العسكرية لحزب الله" في البقاع، والتي تعتبرها سوريا تهديداً لأمنها.
دور اليونيفيل الموسّع
هنا وفي هذا المسار بالتحديد، ثمة من يستحضر دور اليونيفيل او أي قوات دولية أخرى لضبط الحدود، في حال لم يتمكن لبنان من ذلك. خصوصاً أن كل المساعي الخارجية تركز على ضرورة ضبط الحدود وصولاً إلى ترسيمها. وفي وقت تتعرض فيه قوات الطوارئ الدولية العاملة في الجنوب إلى مضايقات من "الأهالي" لمنعها من توسيع صلاحياتها، فإن الفكرة التي ستطرح لاحقاً ستكون توسيع صلاحيات اليونيفيل لتشمل ضبط الحدود اللبنانية السورية، في حال لم تنجح الدولة اللبنانية بالعمل على حصر السلاح بيد الدولة وسحب سلاح حزب الله من البقاع كما من الجنوب بحسب "المدن".