لماذا يخاف البعض الرد على الهاتف؟

هواتفنا المحمولة لا تفارقنا، نحملها كأنها امتداد لأجسادنا، نلجأ إليها في السراء والضراء، نطلب منها العزاء، ونسعى عبرها إلى الحب، وإلى الاطمئنان.

ومع هذا الارتباط العميق واليومي، ثمّة مفارقة تلفت: هناك من يخشى المكالمات الهاتفية، بل إن رنين الهاتف، بالنسبة الى كثيرين، كافٍ ليبدأ القلب بالخفقان، حتى وإن كان المتّصل معروفاً ومقرّباً، أمّا إن كان الرقم مجهولاً، فإنّ التوتر يتضاعف، ويصبح الصمت انتظاراً، والردّ عبئاً.

في كثير من الأحيان، نفضّل أن نترك الهاتف يرنّ حتى يتوقّف من تلقاء نفسه، نراقب الشاشة، ننتظر رسالة، نؤجّل المواجهة، كأننا بذلك نخفف من وطأة التواصل. لكن، ما الذي يجعل المكالمة الهاتفية ثقيلة بهذا الشكل؟

وتقول راوية عيتاني، المتخصّصة في صورة العلاقة مع الذات، إن هذا الخوف لا يرتبط بالجهاز نفسه، بل بما يُحرّكه في داخلنا: "الخوف الحقيقي ليس من الهاتف، بل من الإحساس الذي يوقظه فينا، من توتّر المواجهة، ومن كلّ ما يمكن أن يحدث لحظة نسمع صوت الآخر بلا فلاتر".

وتضيف أن تجربتها في ميدان البرمجة اللغوية العصبية (NLP) أظهرت أن الأشخاص الذين يتجنّبون المكالمات، لا يخشون الرنين في ذاته، بل ما قد يأتي بعده: سؤال محرج، ارتباك غير متوقّع، أو حتى نبرة لا نعرف كيف نردّ عليها. وربما يكون السبب أعمق من ذلك: ذكرى غير مريحة، موقف مزعج، أو طلب لم نستطع رفضه ذات مرة.

بالنسبة الى كثيرين، تمثّل المكالمة الهاتفية نوعًا من الضغط الاجتماعي، "كأنّ شخصاً ما دخل عالمك من دون استئذان". 

وتقول عيتاني: "وفرض عليك تفاعلاً لم تختره، لا في توقيته، ولا في شكله".

وهنا يظهر نمطاً من المقاومة: "إن لم يكن بوسعي التحكّم بالسياق، فلن أشارك فيه من الأساس".

وهذا بالفعل ما يحدث مع معظمنا، عندما يضغط من حولنا علينا بواجبات أو بطلبات سبق أن رفضناها، فيصبح الهاتف بمثابة "كارت الضغط الأخير"، كأنّهم يقولون: إن لم تقبل وجهاً لوجه، فليكن الضغط عبر الهاتف... لم لا؟

وربما، في العمق، يكمن الخوف من المكالمات في خوف أعمق من التعبير، من الإفصاح، من الكلام المباشر.

وربما هو تمرّد هادئ على نمط من أنماط التواصل الذي لا يمنحنا الوقت لنفكّر، لنختار كلماتنا، ولنخفي هشاشتنا خلف نصّ مكتوب أو إيموجي مناسب.

المكالمة تكشف، تكشف ما نخفيه من قلق، من ارتباك، من شعور بعدم الجدارة، وأحياناً، لا يكون الأمر أكثر من حاجة بسيطة إلى شعور بالأمان قبل أن نبدأ الحديث.

من هنا، تفضّل عيتاني عدم التعامل مع هذا الخوف كفوبيا تحتاج إلى علاج، بل كمؤشر داخلي، كنداء يقول لنا: "أنا غير مرتاح... ساعدني أن أفهم السبب".

الخوف الذي يتنكّر في صمت، ليس دائماً ضعفاً، في أحيان كثيرة، يكون رغبة في السيطرة، في الوضوح، وفي حق بسيط في اختيار كيف ومتى نُسمع أصواتنا؟

قد لا يكون الخوف من المكالمة سوى مرآة صغيرة نرى فيها أنفسنا بلا أقنعة، تمامًا كما قال كارل يونغ:"من ينظر إلى الخارج يحلم، ومن ينظر إلى الداخل يستيقظ".

وربما، حين نمتلك الشجاعة للردّ على تلك الرنّة، نكون قد بدأنا رحلة صغيرة نحو يقظة داخلية... لا تهاب الصوت، بل تصغي الى ما خلفه.

يقرأون الآن