مع تزايد الإجازات المرضية للموظفين في أوروبا، بدأت الحكومات تشتكي وتحسب التكاليف، لدرجة أن بعض المراقبين حذروا من تهديدات بالإفلاس، بالنظر إلى معدلات الغياب عن العمل.
وبحسب أحدث الإحصاءات، فإن الموظف العادي في ألمانيا يحصل على 15 يوماً إجازة مرضية سنوياً وفي النرويج، حيث يتقدم العاملون بإجازات مرضية أكثر من أي دولة أخرى في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD)، يُفقد ما مقداره 7% من أيام العمل بسبب المرض وهو أعلى مستوى منذ 15 عاماً.
عجز مالي يتفاقم في البلاد
كما يكشف صندوق التأمين الصحي الوطني (CNAM) في فرنسا، ارتفاع فاتورة أجور المرضى بنسبة 28% بين عامي 2019 و2023، بسبب شيخوخة السكان والتضخم وزيادة عدد العمال الذين يأخذون إجازة بسبب المرض والشهر الماضي أعلن فرانسوا بايرو، رئيس الوزراء الفرنسي، اتخاذ إجراءات صارمة بشأن الإجازات المرضية بهدف خفض العجز المالي المتفاقم في البلاد.
وتعهد بايرو بـ«التوفيق بين العمل والفرنسيين» وقال: إن المفتشين وجدوا أن إجازة العمال المرضية لأكثر من 18 شهراً لم تكن مبررة في نصف الحالات وهو ما وصفه بـ«غير المقبول»، بحسب ما أوردت صحيفة التليغراف.
ومنذ جائحة كورونا، شهدت عدة دول ارتفاعاً حاداً في عدد أيام الإجازات المرضية للقوى العاملة ويُرجع نيكولاس زيبارث -من مركز لايبنتس للأبحاث الاقتصادية الأوروبية- ذلك جزئياً إلى تغير الأوضاع عقب تفشي كوفيد-19. ويقول: «التفسير الأول لهذا الارتفاع نتيجة أزمة ما بعد كوفيد، لأن الموظفين الآن أصبحوا يستسهلون الاتصال بالأطباء للإبلاغ عن أمراض معدية خفيفة».
ارتفاع تكلفة الإجازات المرضية
ورغم تأكيده أن هذا الأمر ليس بالضرورة سيئاً، إذ يُقلل من انتشار العدوى في مكان العمل، لكن ارتفاع عدد الموظفين المتغيبين عن العمل بسبب المرض له تكلفة اقتصادية واضحة، ففي ألمانيا ارتفعت تكلفة إجازات المرض لأصحاب العمل من 36.9 مليار يورو إلى 76.7 مليار يورو بين عامي 2010 و2023 وفقاً لدراسة أجراها المعهد الاقتصادي الألماني.
آثار ضارة في بيئة العمل
ويؤكد زيبارث أن: «ارتفاع معدلات الغياب عن العمل يمثل مشكلة لأنه يزيد من تكاليف العمالة بالنسبة لأصحاب العمل ويؤدي إلى فقدان الإيرادات واضطرابات في سير العمل وانتشار الآثار السلبية على الزملاء الذين يتعين عليهم تعويض النقص».
وبحسب التقرير، فإنه ليس من المستغرب أن تشير الأبحاث إلى وجود صلة مباشرة بين «سخاء» الإجازات المرضية في بلد ما ومدة إجازات الموظفين المرضية وتقدم كل من ألمانيا والنرويج بعضاً من أفضل أجور الإجازات المرضية في العالم.
ويحصل العمال الألمان على أجر كامل عن الأسابيع الستة الأولى من الإجازة المرضية وفي النرويج يدفع صاحب العمل أجر الأيام الستة عشر الأولى وبعد ذلك، يغطي نظام التأمين الوطني 100% من راتب العامل لمدة تصل إلى عام.
وبالمقارنة، يتقاضى العمال البريطانيون 118.75 جنيه إسترليني فقط أسبوعياً لمدة تصل إلى 28 أسبوعاً ووفقاً لبيانات مكتب الإحصاءات الوطنية، حيث لم يأخذ العامل العادي سوى 4.4 أيام إجازة مرضية في عام 2024.
إجراءات ضرورية لعلاج الأزمة
وتتعرض الدول لضغوط لتقليص استحقاقات الإجازات المرضية، ففي النرويج، شكّل الإنفاق العام على إعانات المرض والعجز 8% من الناتج المحلي الإجمالي عام 2022 وهو أعلى بكثير من متوسط منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية البالغ 2% وقد حثّ صندوق النقد الدولي النرويج على خفض هذه الاستحقاقات بهدف «الحد من عوامل التثبيط الوظيفي وزيادة مشاركة القوى العاملة واحتواء التكاليف المالية طويلة الأجل».
واتخذت فرنسا خطوة جريئة، فمن بين الإجراءات الجديدة التي أعلنها رئيس الوزراء وضع حد أقصى للإجازات المرضية التي يحددها الأطباء العامون لا يتجاوز أسبوعين، كما يريد أيضاً أن يسمح للأطباء العامين وليس فقط أطباء العمل، بتقييم قدرة العمال على مواصلة الدوام.
وحالياً لا يستطيع الموظفون في فرنسا الذين تغيبوا عن العمل لأكثر من 30 يوماً بسبب المرض، العودة إلى العمل دون استشارة متخصصين ووصف رئيس الوزراء هذا الوضع بـ«العبثي» وقال: إنه حال دون عودة عشرات الآلاف إلى ممارسة مهامهم.
الإجازات المرضية «المزورة»
كما تسعى فرنسا أيضاً إلى وضع حدٍّ لاستغلال الموظفين للنظام وتشير التقديرات إلى أن الإجازات المرضية «المزورة» ستُكلّف الاقتصاد الفرنسي أكثر من 30 مليون يورو في عام 2024، ارتفاعاً من حوالي 8 ملايين يورو في عام 2023.
وأصدرت الحكومة الفرنسية شهادة إجازة مرضية جديدة للأطباء، مصممة لتكون أكثر صعوبة في التزوير. ويهدف بايرو إلى خفض 43.8 مليار يورو من ميزانية فرنسا للسيطرة على الدين.
تعويض 100%
ويؤكد خبراء أن سياسات الإجازات المرضية التي تُعوِّض 100% من راتب العامل قد تكون مُبالغاً فيها، وأشاروا إلى أنه ربما يكون معدل الاستبدال الأمثل اقتصادياً ما بين 60% و90%.
وفي بريطانيا، ارتفع عدد أيام الإجازة المرضية منذ عام 2019 وفقاً لمعهد أبحاث السياسات العامة ومع ذلك، فإن العمال بشكل عام يأخذون عدداً قليلاً نسبياً من أيام الإجازة سنوياً مقارنة بالدول الأخرى ويرجع ذلك إلى أن أجور المرض في بريطانيا منخفضة وفقاً للمعايير الدولية.
لكن سيباستيان ريس، من معهد البحوث السياسية، يقول: إن إحجام الموظفين عن أخذ إجازة من العمل له ثمن ويوضح: «لدينا مشكلة كبيرة تتعلق بالحضور المرضي في بريطانيا، أجر المرض القانوني أقل منه في دول أخرى، مما يشجع على العمل أثناء المرض وهذا يعني أن العاملين الذين يعانون مشاكل صحية لا يحظون بوقت كافٍ للتعافي، كما أنهم أقل إنتاجية».
العمل أثناء المرض
وتشير الدراسات إلى أن فقدان الإنتاجية بسبب المرض قد يكلف الاقتصاد مليارات الدولارات وتُصعِّب مشكلات البيانات تحديد مدى تأثير سوء الحالة الصحية على القوى العاملة في بريطانيا على وجه اليقين.
وتُقدِّر وزارة العمل والمعاشات في بريطانيا أن تكلفة اعتلال الصحة في سن العمل قد تضاعفت خلال ست سنوات، لتصل إلى ما بين 240 و330 مليار جنيه إسترليني ويُعزى حوالي 120 مليار جنيه إسترليني من هذا المبلغ إلى الخمول الاقتصادي وليس مرتبطاً بالخمول الصحي، ويعود ذلك إلى ارتفاع حاد في حالات الصحة النفسية.
وقد ارتفع الإنفاق على المزايا الصحية في بريطانيا بمقدار 16 مليار جنيه إسترليني منذ الجائحة، وحالياً يتم تخصيص 37% من إعانة الإعاقة الجديدة للصحة النفسية، بزيادة من 28% قبل الجائحة وهو ما لم تشهده أي دولة أخرى، وفقاً لبحث أجراه معهد الدراسات المالية.
ويقول الخبير البريطاني إدوين لاتيمر: «إن بلداناً عديدة تعاني العواقب الصحية طويلة الأمد الناجمة عن الوباء، لكن هذا يظهر بشكل خاص في الفوائد الموجودة في بريطانيا». ويضيف لاتيمر: «هذا مبلغ كبير في السياق إذا رفعنا المعدل الأساسي لضريبة الدخل، سنحصل على ما بين 6 و7 مليارات جنيه إسترليني وتشير التوقعات إلى أن الأمر سيزداد صعوبة من الناحية المالية مع زيادة الإنفاق على الإعانات».
وفي ظل المسار الحالي، قد يتمكن 13% من السكان في سن العمل من المطالبة بفوائد متعلقة بالرعاية الصحية بحلول عام 2028-2029 وفقاً لمعهد الإحصاء البريطاني ووعد ريشي سوناك، رئيس الوزراء البريطاني السابق، بمعالجة «ثقافة الإجازات المرضية» قبل هزيمة حكومته في انتخابات العام الماضي.
وكان رئيس الوزراء الحالي كير ستارمر يخطط لخفض إعانات المرض والإعاقة، لكنه خفف من حدة الإصلاحات في مواجهة تمرد كبير من قبل بعض النواب، بينما تسعى الحكومة إلى إعادة المزيد من الموظفين إلى العمل للحد من فاتورة الرعاية الاجتماعية.
وأصدرت هيئة الخدمات الصحية الوطنية في بريطانيا أكثر من 11 مليون إجازة مرضية العام الماضي، 93% منها اعتبرت الموظفين «غير لائقين للعمل» وقال وزير الصحة ويس ستريتنج: «إن البلاد لا تستطيع أن تتحمل الاستمرار في تغيب الموظفين» وكشف مؤخراً عن خطة تجريبية حيث تقوم عيادات الأطباء العامين بتوجيه العمال إلى المدربين والصالات الرياضية بدلاً من مجرد تسجيل خروجهم من العمل.
ويقول لاتيمر: "إن الخيار الآخر أمام الحكومة، إلى جانب خفض المزايا المرضية، هو الاستثمار في الصحة وتحسين سلوك أصحاب العمل".